التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
١٣٦
-الأنعام

روح المعاني

{ وَجَعَلُواْ } أي مشركو العرب { لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } أي خلق. قال الراغب: «الذرء، إظهار الله تعالى ما (أبدعه) يقال: ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم»، وقال الطبرسي: «الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذرْآني [وذَرَآني] لظهور بياضه». و (من) متعلقة بجعل و (ما) موصولة وجملة { ذَرَأَ } صلته والعائد محذوف. وقوله سبحانه: { مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ } متعلق بذرأ. وجوز أبو البقاء أن يكون { مما } متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من قوله تعالى: { نَصِيباً } وأن يكون { مِنَ ٱلْحَرْثِ } حالاً أيضاً من ما أو من العائد المحذوف. و { نَصِيباً } على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد، وجوز أن يكون متعدياً لاثنين أولهما { مِمَّا ذَرَأَ } على أن من تبعيضية وثانيهما { نَصِيباً }، وقيل: الأمر بالعكس. واعترض بأنه لا يساعده سداد المعنى، وأياً ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة.

أخرج ابن أبـي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إنهم كانوا إذا احترثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءاً وجزءاً للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئاً مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوا لله تعالى وإن سبقهم الماء الذي سموا لله تعالى فسقي ما سموا للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه. وروي أنهم كانوا يعينون شيئاً من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها / ويذبحون عندها فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جماداً لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له، واختار هذه الرواية الزجاج وغيره.

وأصل النظم الكريم وجعلوا لله الخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه ـ على ما قيل ـ أمر محقق عندهم وأشير إلى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى: { فَقَالُواْ هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا } أي الأوثان، وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم فهم شركاؤهم فيها: ويحتمل أن الإضافة لأدنى ملابسة حيث إنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى. وقرأ الكسائي ويحيـى بن وثاب والأعمش { بِزَعْمِهِمْ } بضم الزاي وهو لغة فيه، وجاء الكسر أيضاً فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه، وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس يجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى، وقيل: للإيذان بأن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به. ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني. وجوز أن يكون ذلك تمهيداً لما بعده على أن معنى قولهم: { هَـٰذَا لِلَّهِ } مجرد زعم منهم لا يعلمون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى.

فقوله سبحانه: { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ } بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم، و { سَاء } يجري مجرى بئس، فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا، وقيل: إن { سَاء } هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فإن فاعل الجارية يجب أن يكون معرفاً باللام أو مضافاً في الأشهر، واختاره بعض المحققين.