التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
-الأنعام

روح المعاني

{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ } لما أمر النبـي صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نهي عليه الصلاة والسلام عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم؛ ويفهم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معاً ولا يفهم ذلك من البعض الآخر، فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «مر الملأ من قريش على النبـي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء من الله تعالى عليهم من بيننا أنحن نكون تبعاً لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرآن { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ } [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه: { { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِينَ } [الأنعام: 58].

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في «الدلائل». وغيرهم عن خباب رضي الله تعالى عنه قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبـي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال وصهيب. وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعوداً مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: نعم قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة ودعا علياً كرم الله تعالى وجهه ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بهذه الآية { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ } الخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: { { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى { { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [الكهف: 28] الخ / فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقرظة بن عمرو بن نوفل والحرث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبـي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله سبحانه { وَأَنذِرْ بِهِ } [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } [الأنعام: 53] وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، والحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم. ونزل في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء { { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [الأنعام: 53] الآية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله تعالى: { { وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا } [الأنعام: 54] الآية.

والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأصل العشي عشوي قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وفاء بالقاعدة، والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات، وقيل: هو جمع عشية وفيه بعد، ومعنى الأول لغة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، ومعنى الثاني آخر النهار، والمراد بهما هٰهنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحاً إذا داوم عليه. والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أقوال.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيراً ما يذكر ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل في قوله تعالى: { { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } [النساء: 43] أن المراد بالصلاة المساجد، وخصا بالذكر لشرفهما. والأقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني، وقرأ ابن عامر هنا وفي الكهف [82] (الغدوة) بالواو وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم، وزعم أبو عبيد أن من قرأ بالواو فقد أخطأ لأن غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام، ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو كالصلاة والزكاة وقد أخطأ في هذه التخطئة لأن غدوة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيؤها اسم جنس أيضاً منكراً مصروفاً فتدخلها أل حينئذ، وقد نقل ذلك سيبويه عن الخليل، وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير إليه كلام الإمام النووي في «شرح مسلم» وذكره جم غفير من أهل اللغة.

وذكر المبرد أيضاً عن العرب تنكير غدوة وصرفها وإدخال اللام عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوروده في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة ـ كما قيل ـ إلى التزام أنها علم لكنها نكرت فدخلتها أل لأن تنكير العلم وإدخال أل عليه أقل قليل في كلامهم بل إن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد في قوله:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله

لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضاً، والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في / الآية على أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة، والذي تحكيه الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين المتقين وقتاً خاصاً ولأشراف قريش وقتاً آخر ليتآلفوا فيقودهم إلى الإيمان؛ وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلى الله عليه وسلم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة والسلام.

{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } في موضع الحال من ضمير { يَدَّعُونَ }. وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل ـ وهو المشهور ـ إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مراداً لذاته سبحانه وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه، وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، وقيل: المراد به الجهة والطريق، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج، وقيل: «إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتاً أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا [السبب] جعل [الوجه] كناية عنهاـ قاله الإمام وهو كما ترى ـ وجوز أيضاً أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل، والمعنى يريدونه».

{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين. وجوز في (ما) أن تكون تميمية وحجازية وفي { شَىْءٍ } أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي و { مِنْ حِسَابِهِم } وصف له قدم فصار حالاً، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف المتقدم متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً له و { مِنْ } زائدة للاستغراق، وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره. والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى أن يتوهم كونه مسوغاً لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: { { مَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى } [هود: 27]، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئاً ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم.

{ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْءٍ } عطف على ما قبله، وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً وهو انتفاء كون حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه: { { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34، والنحل: 61] في رأي. وقال الزمخشري: «إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدى { { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [فاطر: 18] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لا بد من الجملتين»، وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل. وتقديم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين ـ قيل ـ للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول، وقيل: إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم/ . وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى إنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، والضمير في قوله سبحانه: { فَتَطْرُدَهُمْ } للمؤمنين على كل حال، والفعل منصوب على أنه جواب النفي، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل: ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا.

وقوله تعالى: { فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } جواب النهي، وجوز الإمام والزمخشري أن يكون عطفاً على { فَتَطْرُدَهُمْ } على وجه التسبب لأن الكون ظالماً معلول طردهم وسبب له. واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتباً على الطرد بلا اعتبار كونه مترتباً على المنفي ومنتفياً بانتفائه يفوت وجود سببية العطف. وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الطرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضاً فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة. واعترض أيضاً بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه صلى الله عليه وسلم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم وطردهم لكان ظلماً وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وأجيب بأنه على حد «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» . وفي «الكشف» في بيان مراد صاحب «الكشاف» أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل: ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلماً وذلك لأن الطرد جعل سبباً للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد ـ نعم العبد ـ الخ بل هو خروج عن الحد، وجوز بعضهم أن يكون الأول جواباً للنهي كما جاز أن يكون جواباً للنفي، ونقل عن «الدر المصون» وقال: الكلام عليه بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى. وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلاً إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان طرده إياهم حسناً وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لإعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيماً فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقاً كما في قوله:

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال

وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتى بها علمت ما في هذا الكلام فافهم؛ وأياً ما كان فالمراد فتكون من الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم.