التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٥٥
-الأنعام

روح المعاني

{ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ } أي دائماً { الآيَـٰتِ } أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين. والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفاً { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبـي عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفاً أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر. وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [الأنعام: 36] قال ابن عطاء: أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب. وأخبر أن الآخرين هم الأموات. وقال غيره: المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافاة مع احتجابهم، وقيل: الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } حيث / فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه. قيل: إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء. وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد برسالته أنشأ يقول:

ألا يا رسول الله إنك صادق فبوركت مهدياً وبوركت هادياً
وبوركت في الآزال حياً وميتا وبوركت مولوداً وبوركت ناشياً

وإن فيهم أيضاً المحتجبين ومرتكبـي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلاً { مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ } أي كتاب أعمالهم { { مِن شَىْء ثُمَّ إِلَىٰ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام: 38] في عين الجمع { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ } لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم { بِـئَايَـٰتِنَا } وهي تجليات الصفات { صُمٌّ } فلا يسمعون بآذان القلوب { وبكم } فلا ينطقون بألسنة العقول { فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } بإسبال حجب جلاله { { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 39] بإشراق سبحات جماله { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } من المرض وسائر أنواع الشدائد { أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ } الصغرى أو الكبرى { أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ } لكشف ما ينالكم { { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [الأنعام: 40] { { بَلْ إِيَّـٰهُ تَدْعُونَ } [الأنعام: 41] لكشف ذلك. قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف. وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى. { { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام: 42] أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر { { وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنعام: 43] أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ } فلم تسمعوا خطابه { وَأَبْصَـٰرَكُمْ } فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته { وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه { { مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } [الأنعام: 46] أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى } أي من حيث أنا { خَزَائِنُ ٱللَّهِ } أي مقدوراته { وَلا أَعْلَمُ } أي من حيث أنا أيضاً { ٱلْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ } أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب { إِنْ أَتَّبِعُ } أي من تلك الحيثية { إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ } [الأنعام: 50] من الله تعالى. وله صلى الله عليه وسلم مقام { { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17]. و { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح: 10] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ } عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه بشيء من المظاهر { { وَٱلْبَصِيرُ } [الأنعام: 50] بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال { وَلاَ تَطْرُدِ } أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان { ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال { بِٱلْغَدَاةِ } أي وقت تجلي الجمال { وَٱلْعَشِىّ } أي وقت تجلي العظمة والجلال { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم } أي حساب أعمالهم القلبية { مّن شَىْءٍ } لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقوله تعالى: { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْءٍ } عطف / على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة. ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات { فَتَطْرُدَهُمْ } عن الجلوس معك { { فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [الأنعام: 52] لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائماً بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم } فيما يعملون { مِن شَىْء } إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء } أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه { فَتَطْرُدَهُمْ } عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني { فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } لتشويشك عليهم أوقاتهم، والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ } أي الناس وهم المحجوبون { بِبَعْضِ } وهم العارفون { لّيَقُولواْ } أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش { أَهَـؤُلاء مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } بالهداية والمعرفة { مّن بَيْنِنَا } أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } [الأنعام: 53] أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده { وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا } أي بواسطتها { فَقُلْ } لهم أنت أيها الوسيلة: { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } [الأنعام: 54] وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه { { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يۤس: 58] وباقي الآية ظاهر. وقال الإمام الرازي: «إن قوله سبحانه: { وَإِذَا جَاءكَ } الخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه [وكبريائه] وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له [وما لا نهاية له] فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات، وهذا (شرح إجمالي) لا نهاية لتفاصيله. ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة. وقوله سبحانه { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } بشارة بحصول (الكرامة) عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانية ومعدن الآفات (والمخافات) وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال» انتهى. وقال آخر: الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا { فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ } لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفاً عن كل ما فات { إِنَّهُ مِنَ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ } أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور { وَأَصْلَحَ } أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه / سبحانه والرياضة (فأنه) عز شأنه { غَفُورٌ } يسترها عنه { { رَّحِيمٌ } [الأنعام: 54] يرحمه بهبة التميكن ونعمة الاستقامة { وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا { { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [الأنعام: 55] وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى الموفق للصواب.