التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٩٤
-الأنعام

روح المعاني

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } للحساب { فُرَادَىٰ } أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا. أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عكرمة قال: النضر بن الحرث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت. والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى: { { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ } [البقرة: 174] لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب، وقيل: معطوفة على قول الملائكة { { أَخْرِجُوۤاْ } [الأنعام: 93] الخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى. ونصب { فُرَادَىٰ } على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في «الصحاح»، والألف للتأنيث ككسالى، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب «الدر المصون» وحكى بصيغة التمريض سكونها، ونقل عن الراغب «أنه جمع فريد كأسير وأسارى»، وفي «القاموس» «يقال: جاءوا فُرَاداً وفِرَاداً وفُرَادَى وفُرَادَ وفَرَادَ وفَرْدَى كسَكْرَى أي واحداً بعد واحد والوَاحِدُ فَرَدٌ وفَرِدٌ وفَرِيد وفَرْدَان ولا يجوز فَرْدٌ في هذا المعنى»، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية. وقرىء { فراداً } كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة، ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص، نعم هو شائع فيما ذكر. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال.

{ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } بدل من { فُرَادَىٰ } بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور، والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالاً ثانية على رأي من يجوز تعدّد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالاً من الضمير في { فُرَادَىٰ } فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه / أيضاً في الانفراد، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلاً بهما، وجوز أن يكون صفة مصدر { جِئْتُمُونَا } أي مجيئاً كخلقنا لكم.

أخرج ابن أبـي حاتم والحاكم وصححه "عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله واسوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس:37] لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" .

{ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ } أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة { وَرَاء ظُهُورِكُمْ } ما قدمتم منه شيئاً لأنفسكم. أخرج عبد بن حميد وابن أبـي حاتم عن الحسن قال: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى: أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً وتلا هذه الآية، والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد.

{ وَمَا نَرَىٰ } أي نبصر وهو ـ على ما نص عليه أبو البقاء ـ حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى: { مَّعَكُمْ } وليس حالاً من مفعول { نَرَى } أعني قوله سبحانه: { شُفَعَاءَكُمُ } ولا مفعولاً ثانياً، والرؤية علمية. وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز وجل: { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } في الدنيا { أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } أي شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم. والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه، ومن ذلك قوله:

تقول هلكنا إن هلكت وإنما على الله أرزاق العباد كما زعم

{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } بنصب ـ بين ـ وهي قراءة عاصم والكسائي وحفص عن عاصم، واختلف في تخريج ذلك فقيل: الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم، وقيل: إن الفاعل ضمير المصدر، وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس. ورد بأنه سمع بدا بداء، وقد قدروا في قوله تعالى: { { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [يوسف: 35] بدا البداء. وقال السفاقسي: إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال: المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعاً معرف بلام الجنس و { تُقَطَّعَ } منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه. ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل: إن ـ بين ـ هو الفاعل وبقي على حاله منصوباً حملاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وقيل: إنه بني لإضافته إلى مبنى، وقيل غير ذلك. واختار أبو حيان «أن الكلام من باب (التنازع سلط) على ما كنتم تزعمون تقطع وضل (عنكم) فأعمل الثاني وهو { ضَلَّ } وأضمر في { تُقَطَّعَ } (ضميره). والمراد بذلك الأصنام، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى: { { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [البقرة: 166] أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم».

/ وقرأ باقي السبعة { بينكم } بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين بمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية. وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن ـ بين ـ يستعمل بين الشيئين المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة، على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد، فإن أبا عمرو وأبا عبيدة وابن جني والزجاج وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سنداً فيه، فكونه منتزعاً من هذه الآية غير مسلم، وعليه فيكون مصدراً لا ظرفاً. وقيل: إن ـ بين ـ هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع. وقرأ عبد الله { لَقَد تَّقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ } و(ما) فيه موصوفة أو موصولة { وَضَلَّ عَنكُم } ضاع وبطل { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء.