التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ
١٣
-الممتحنة

روح المعاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، وروي أن قوماً من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، وقيل: هم اليهود والنصارى، وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش، وقال غير واحد: هم عامة الكفرة. وهذه الآية على ما قال الطيبـي: متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى: { { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [الممتحنة: 1] وهي قوله سبحانه: { { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } [الممتحنة: 9] وقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ } [الممتحنة: 10] الخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي «الانتصاف» جعل هذه الآية نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول: بأن المراد بالقوم اليهودُ أو أهل الكتاب مطلقاً.

وقوله تعالى: { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلأَخِرَةِ } استئناف، والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلى الله عليه وسلم المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وإذا أريد بالقوم الكفرةُ فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها.

{ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّـٰرُ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْقُبُورِ } أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن { مِنْ } بيانية، والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل: كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة، وكون { مِنْ } بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد، وهو اختيار ابن عطية وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا، وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة، فالمراد بالكفار أولئك القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلاً لكفرهم وإشعاراً بعلة يأسهم.

وقرأ ابن أبـي الزناد (كما يئس الكافر) بالإفراد على إرادة الجنس.

هذا ومن باب الإشارة في بعض الآيات: ما قيل: إن قوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [الممتحنة: 1] الخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الأمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل: «أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك» وهي لا تزال كارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } } [الممتحنة: 7] وقوله سبحانه: { { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ } [الممتحنة: 8] الخ إشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة، وإليه الإشارة بما روي "إن لنفسك عليك حقاً" وفي قوله سبحانه: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ يُبَايِعْنَكَ } [الممتحنة: 12] الخ إشارة إلى مبايعة المرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر السري خاطر / الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده، وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.