التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
٦
-الصف

روح المعاني

{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } إما معطوف على { { إذ } [الصف: 5] الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها { يٰبَنِى إِسْرٰءيلَ } ولعله عليه السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال: { يٰبَنِى إِسْرٰءيلَ } لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضماً لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إن الاستعطاف / بما ذكر لما فيه من التعظيم، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام.

{ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقاً، فنصب { مُصَدّقاً } على الحال من الضمير المستتر في { رَّسُولٍ } وهو العامل فيه، و { إِلَيْكُمْ } متعلق به، وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه السلام.

وقوله تعالى: { وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى } معطوف على { مُصَدّقاً }، وهو داع أيضاً إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس منها: أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه، وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه، ويقول لهم ما آمره فيه، والذي لا يقبل قول ذلك النبـي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك، ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جيمعاً من تقدم ومن تأخر. وجملة { يَأْتِىَ } الخ في موضع الصفة ـ لرسول ـ وكذا جملة قوله تعالى: { ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } وهذا الاسم الجليل علم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه قول حسان:

صلى الإلٰه ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد

وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا الماحي الذي يمحو الله بـي الكفر وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبـي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية، وجوز أن يكون من المحمودية بناءاً على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد، وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي. وقرىء { من بعدى } بفتح الياء.

هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم: لو وقعت لذكرت في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت قلنا: بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاءاً بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام. ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد ـ حباً لدينهم أو لأمر ما غير ذلك ـ أسقطوها كذا قيل. وأنا أقول: الأناجيل التي عند النصارى أربعة: إنجيل متى من الاثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحاً، وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحاً، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضاً جمعه بالإسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحاً، وإنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح جمعه بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحاً وهي مختلفة، وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي / إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعاً ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلى الله عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف، ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبـي يعلمكم كل شيء، وقال يوحنا أيضاً: قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي وأبـي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبـي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيى إلى الأب، وقال أيضاً: إن خيراً لكم أن أنطلق لأبـي إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاماً كثيراً أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب، وقال أيضاً: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم من قريب. والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلى الله عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد، وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقوله عيسى عليه السلام: فالله يرسل مخلصاً آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلى الله عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلى الله عليه وسلم بعنوان التخليص، فيستدل به على ثبوت رسالته صلى الله عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا، وزعم بعضهم أن الفارقليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب، ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبـى ذلك إذ لم يتقدم لهم غيره.

{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ } أي عيسى عليه السلام { بالبَيِّنَات } أي بالمعجزات الظاهرة. { قَالُوا هَذَا سحْرٌ مُّبينٌ } مشيرين إلى ما جاء به عليه السلام، فالتذكير بهذا الاعتبار، وقيل: مشيرين إليه عليه السلام وتسميته سحراً للمبالغة، ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب ـ هذا ساحر ـ وكون فاعل { جاءهم } ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه، وقيل: هو ضمير { أحمد } عليه الصلاة والسلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات قالوا الخ.