التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
-الجمعة

روح المعاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَٰوةِ } أي فعل النداء لها أي الأذان، ((والمراد به على ما حكاه في «الكشاف» الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه)). وفي حديث الجماعة ـ إلا مسلماً ـ فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري ومسلم زاد النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولاً ثانياً باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثاً لأن الإقامة تسمى أذاناً كما في الحديث "بين كل أذانين صلاة" وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبـي: المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي: { فَٱسْعَوْاْ } هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به، لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبـي صلى الله عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال: المراد / الأول في الأصح؟ وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخميناً ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك. وفي كتاب «الأحكام» روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى: { إِذَا نُودِىَ } الخ قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي. وفي كتب الحنفية خلافه ففي «الكنز» و«شرحه»: ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَٰوةِ } الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل: العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو ـ وهو ضعيف ـ لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر.

{ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } أي فيه كما في قوله تعالى: { { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } [فاطر: 40] أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضاً كون { مِنْ } للتبعيض، وفي «الكشاف» هي بيان ـ لإذا ـ وتفسير له. والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط (مِنْ) البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا؛ وقيل: أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض وهو كما ترى.

والجمعة بضم الميم وهو الأفصح والأكثر الشائع، وبه قرأ الجمهور. وقرأ ابن الزبير وأبو حيوة وابن أبـي عبلة وزيد بن علي والأعمش بسكونها، وروي عن أبـي عمرو ـ وهو لغة تميم ـ وجاء فتحها ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضاً، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان، ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم: ضحكة للمضحوك منه، وأما الجمعة بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم: ضحكة لكثير الضحك. وقال أبو البقاء: الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع. وقيل: في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى.

وقد صار يوم الجمعة علماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علماً له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد. وكانت العرب ـ على ما قال غير واحد ـ تسمي يوم الجمعة عروبة. قيل: وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها؛ وقيل: أل لازمة، قال الخفاجي: والأول أصح.

وفي «النهاية» لابن الأثير: عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربـي يقال: يوم عروبة ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربـي جزم به مختصر كتاب «التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل» لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال: عروبة منكراً ومعرفاً هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال: قال السهيلي: ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ.

وأول من سماه جمعة قيل: كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبـي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يومٌ يجتمعون فيه / بكل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك بعد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَٰوةِ } الآية.

وكون أسعد هذا أول من جمع مروى عن غير ابن سيرين أيضاً، أخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب [بن مالك] أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلاً، وظاهر قول ابن سيرين: فأنزل الله تعالى في ذلك بعد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبـي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، وفي «فتح القدير» التصريح بذلك، وقال العلامة ابن حجر في «تحفة المحتاج» فرضت ـ يعني صلاة الجمعة ـ بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفياً، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولاً بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته. لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافاً بها أو جحوداً بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه" فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه: "لا حج له" أن الحج كان مفروضاً إذا ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل: فرض قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها، وقيل: ثانيها، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا: إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال: إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني عن أبـي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلاً. وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه، وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبـي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال: فهو أول من جمع، حتى قدم النبـي صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام ومصعباً أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعباً أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة، وقولهم: في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع / بين الحديثين بأن أسعد كان أميراً، ومصعباً كان إماماً وهو كما ترى. ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكأن في خبر ابن سيرين رمزاً إليها بقوله: وذكرهم، وقد يقال: إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل: إن فلاناً أول من صلى الجمعة كان متضمناً لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفياً لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها؟ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام؟! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاءوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جداً فتدبر والله تعالى الموفق.

وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجراً نزل قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة وهو أول جمعة صلاها عليه الصلاة والسلام.

وقال بعضهم: إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه "عن أبـي هريرة قال: قلت: يا نبـي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام" الخبر، ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما في حديث رواه ابن أبـي شيبة عن أنس مرفوعاً.

وهو من أفضل الأيام، وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد وابن ماجه عن أبـي لبابة بن عبد المنذر مرفوعاً "يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى" وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة ـ أي للدعاء ما لم يكن سؤال حرام - وقيام الساعة، وفي خبر الطبراني "وفيه دخل الجنة وفيه خرج" . وصحح ابن حبان خبر "لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة" وفي خبر مسلم "فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس" وصح خبر "وفيه تيب عليه وفيه مات" . وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل: ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت.

واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه، فعن أبـي بردة: هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها، وعن الحسن: هي عند زوال الشمس، وعن الشعبـي: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وعن عائشة: هي حين ينادي المنادي بالصلاة، وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبـي شيبة عن كثير بن عبد الله المزني: هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها، وعن أبـي أمامة إِنّي لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر أو عند الإقامة، وعن طاوس ومجاهد: هي بعد العصر، وقيل غير ذلك، ولم يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الاسم الأعظم وليلة القدر وغيرهما لحكمة لا تخفى.

/ { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي، وجعل ذلك من خصائص الجمعة، فقد أخرج الستة في «كتبهم» عن أبـي سلمة من حديث أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة وهو على ما قيل مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له، وقيل: الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة.

واستدلوا بالآية لأبـي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقاً، ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكراً طويلاً يسمى خطبة أو ذكراً لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزىء غيره إذ لا يكون بياناً لعدم الإجمال في لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين، ولهما أركان عندهم، واستدلوا على ذلك بالآثار، وأياً مّا كان فالأمر بالسعي للوجوب.

واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط ـ وهو المقصود لغيره ـ فرع افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع. وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل: كفاية وهو شاذ، وفي حديث رواه أبو داود - وقال النووي: على شرط الشيخين - "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك، أو امرأة أو صبـي أو مريض" .

وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول القاشاني: تصح بواحد لا يعتد به كما في «شرح المهذب» لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال: أحدها: أنه اثنان أحدهما الإمام ـ وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود ـ الثاني: ثلاثة أحدهم الإمام ـ وحكي عن الأوزاعي وأبـي ثور وعن أبـي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم ـ الثالث: أربعة أحدهم الإمام ـ وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبـي ثور واختاره، وحكاه في «شرح المهذب» عن محمد، وحكاه صاحب «التلخيص» قولاً للشافعي في القديم ـ الرابع: سبعة ـ حكي عن عكرمة ـ الخامس: تسعة ـ حكي عن ربيعة ـ السادس: اثني عشر ـ في رواية عن ربيعة وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي ـ السابع: ثلاثة عشر أحدهم الإمام ـ حكي عن إسحاق بن راهويه ـ الثامن: عشرون ـ رواه ابن حبيب عن مالك ـ التاسع: ثلاثون ـ في رواية عن مالك ـ العاشر: أربعون أحدهم الإمام ـ وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز ـ الحادي عشر: خمسون ـ في الرواية الأخرى عنه ـ الثاني عشر: ثمانون ـ حكاه المازري ـ الثالث عشر: جمع كثير بغير قيد ـ وهو مذهب مالك ـ فقد اشتهر أنه قال: لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم. / قال الحافظ ابن حجر في «شرح البخاري»: ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل. وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبـي حنيفة، وقد رجحه المزني ـ وهو من كبار الآخذين عن الشافعي ـ وهو اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها «ضوء الشمعة في عدد الجمعة»، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها، ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال.

وقرأ كثير من الصحابة والتابعين ـ فامضوا ـ وحملت على التفسير بناءاً على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآناً لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه.

{ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاباً أيضاً. وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في «شرح المنار»: إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الإسبيجابـي أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة.

وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة. وقال ابن العربـي: هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله: مردود. ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة ـ وروي عن الزهري، وقال به جمع ـ وأما أول وقت الزوال ـ وروي ذلك عن عطاء والضحاك والحسن.

والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضاً، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي. وصرح في «السراج الوهاج» بعدمها إذا لم يشغله ذلك.

{ ذٰلِكُمْ } أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع { خَيْرٌ لَّكُمْ } أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجل وأبقى، وقيل: أنفع من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفى { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللازم.