التفاسير

< >
عرض

وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠
-المنافقون

روح المعاني

{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ } أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخاراً للآخرة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي أماراته ومقدماته، فالكلام على تقدير مضاف، ولذا فرع على ذلك قوله تعالى: { فَيَقُولَ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى } أي أمهلتني { إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي أمد قصير { فَأَصَّدَّقَ } أي فأتصدق، وبذلك قرأ أبـي وعبد الله وابن جبير. ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه: { وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } بالعطف على موضع { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل: إن أخرتني أصدّق وأكن، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي والزجاج، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى: { { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [الأعراف: 186] فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح، والفرق بين العطف / على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود. واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبـي علي والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير.

وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبـي إسحٰق. ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو { وأكون } بالنصب وهو ظاهر، وقرأ عبيد بن عمير { وأكون } بالرفع على الاستئناف، والنحويون وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة، فيقال هنا: أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه، وقيل: وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى. وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعاً بالعطف على ـ أصدّق ـ على نحو القولين السابقين في الجزم.

هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى: { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُمْ } يعني الزكاة والنفقة في الحج، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر: { فَأَصَّدَّقَ } أزكى { وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } أحج، وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه أيضاً أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت" فقال له رجل: يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآناً { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [المنافقون: 9] إلى آخر السورة كذا في «الدر المنثور». وفي «أحكام القرآن» [لابن العربي] رواية الترمذي عنه ذلك موقوفاً عليه، وحكى عنه في «البحر» وغيره أنه قال: إن الآية نزلت في مانع الزكاة، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة؟! فأجاب بنحو ما ذكر. ولا يخفى أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك، وإذا كان قوله تعالى: { لَوْلا أَخَّرْتَنِى } الخ سؤالاً للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى: { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفاً.