التفاسير

< >
عرض

سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
-المنافقون

روح المعاني

{ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } فهو للتسوية بين الأمرين: الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الإخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جل شأنه: { لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } وتعليله بقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية. والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق؛ والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولاً أولياً، والآية في ابن أبـي كسوابقها ـ كما سمعت ـ ولواحقها ـ كما صح ـ وستسمعه قريباً إن شاء الله تعالى. والاستغفار لهم قيل: على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الإتيان لا يظهر كونه سبباً للاستغفار، ويومىء إليه "قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبـي: تب" وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم.

وحكى مكي أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعدما صدر منهم ما صدر بالتوبة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة { { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ } [التوبة: 80] الخ قال النبـي صلى الله عليه وسلم: "أسمع ربـي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم" فنزلت هذه الآية { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ } الخ. وأخرج أيضاً عن عروة نحوه، وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفاً لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحداً وهو عدم المغفرة لهم مطلقاً، والآية الأولى ـ فيما اختار ـ نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق، وهذه نزلت في ابن أبـي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة، ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم.

ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبـي كان مريضاً إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبـي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده: حاجتي إذا / أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { { وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } [التوبة: 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم، كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق.

وقرأ أبو جعفر ـ آستغفرت ـ بمدة على الهمزة فقيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى: { { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } [الأنعام: 143] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضاً ضم ميم { عليهم } إذ أصلها الضم ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبـي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاز حذف الهمزة ثقة بدلالة { أَمْ } عليها كما في قوله:

بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقال الزمخشري: ((قرأ أبو جعفر ـ آستغفرت ـ إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلباً لهمزة الوصل ألفاً كما في آلسحر وآلله)) وقال أبو جعفر بن القعقاع: بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية. وقرأ أيضاً بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.