التفاسير

< >
عرض

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
-الطلاق

روح المعاني

{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } فإنه اعتراض بين المتعاطفين جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام بالوعد على اتقاء الله تعالى فيها، فالمعنى ومن يتق الله تعالى فطلق للسنة، ولم يضارّ المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يجعل له سبحانه مخرجاً مما عسى أن يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق؛ ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، وفي الأخبار عن بعض أجلة الصحابة ـ كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس في بعض الروايات عنه ـ ما يؤيد بظاهره هذا الوجه، وجوز أن يكون اعتراضاً جيء به على نهج الاستطراد عند ذكر قوله تعالى: { { ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ } [الطلاق: 2] الخ، فالمعنى ومن يتق الله تعالى في كل ما يأتي وما يذر يجعل له مخرجاً من غموم الدنيا والآخرة وهو أولى لعموم الفائدة وتناوله لما نحن فيه تناولاً أولياً، ولاقتضاء أخبار في سبب النزول وغيره له، فقد أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ } الخ فقال: مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة" ، وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم «في المعرفة» والبيهقي "عن أبـي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2-3] فجعل يرددها حتى نعست ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم" .

وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبـي عن أبـي صالح عن ابن عباس قال: "جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نِعْمَ ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ }" الآية، وفي رواية ابن أبـي حاتم عن محمد بن إسحٰق مولى آل قيس قال: "جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابن عوف فقال له عليه الصلاة والسلام: أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقدّ فسقط القدّ عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فإذا سرح للقوم الذين كانوا شدوه فصاح بها فاتبع آخرها أولها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ }" الخ. وفي بعض الروايات أنه أصابه جهد وبلاء فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اتق الله واصبر فرجع ابنه وقد أصاب أعنزاً فذكر ذلك للنبـي عليه الصلاة والسلام فنزلت فقال: هي لك" إلى غير ذلك مما هو مضطرب على ما لا يخفى على المتتبع، وعلى القول بالاستطراد قيل: المعنى من يتق الحرام / يجعل له مخرجاً إلى الحلال، وقيل: { مَخْرَجاً } من الشدة إلى الرخاء، وقيل: من النار إلى الجنة. وقيل: { مَخْرَجاً } من العقوبة { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } من الثواب، وقال الكلبـي: { مَن يَتَّقِ ٱللَّهِ } عند المصيبة { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } إلى الجنة، والكل كما ترى، والمعول عليه العموم الذي سمعته.

وفي «الكشف» إن تنويع الوعد للمتقي وتكرير الحث عليه بعد الدلالة على أن التقوى ملاك الأمر عند الله تعالى ناط به سبحانه سعادة الدارين يدل على أن أمر الطلاق والعدة من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى لأنه أبغض المباح إلى الله عز وجل لما يتضمن من الإيحاش وقطع الألفة الممهدة، ثم الاحتياط في أمر النسب الذي هو من جلة المقاصد يؤذن بالتشديد في أمر العدة فلا بد من التقوى ليقع الطلاق على وجه يحمد عليه، ويحتاط في العدة ما يجب فهنالك يحصل للزوجين المخرج في الدنيا والآخرة، وعليه فالزوجة داخلة في العموم كالزوج.

{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أي كافيه عز وجل في جميع أموره. وأخرج أحمد في «الزهد» عن وهب قال: "يقول الرب تبارك وتعالى: إذا توكل عليّ عبدي لو كادته السماوات والأرض جعلت له من بين ذلك المخرج" { إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله والأصل بالغ أمره بالنصب ـ كما قرأ به الأكثرون ـ أي يبلغ ما يريده عز وجل ولا يفوته مراد.

وقرأ ابن أبـي عبلة في رواية وداود بن أبـي هند وعصمة عن أبـي عمرو ـ بالغ ـ بالرفع منوناً { أمره } بالرفع على أنه فاعل ـ بالغ ـ الخبر ـ لإن ـ أو مبتدأ، و { بَـٰلِغَ } خبر مقدم له، والجملة خبر { إِنّ } أي نافذ أمره عز وجل، وقرأ المفضل في رواية أيضاً (بالغاً) بالنصب { أمره } بالرفع، وخرج ذلك على أن بالغاً حال من فاعل { جَعَلَ } في قوله تعالى: { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً } لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه، وجملة { قَدْ جَعَلَ } الخ خبر { إِن }، وجوز أن يكون بالغاً هو الخبر على لغة من ينصب الجزأين ـ بإن ـ كما في قوله:

إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافاً (إن) حراسنا أسدا

وتعقب بأنها لغة ضعيفة. ومعنى { قَدْراً } تقديراً، والمراد تقديره قبل وجوده، أو مقداراً من الزمان، وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه عز وجل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر. وفيه على ما قيل: تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها.

وقرأ جناح بن حبيش { قَدراً } بفتح الدال.