التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٣
-التحريم

روح المعاني

{ وَإِذَ أَسَرَّ } / أي واذكر إذ أسر { ٱلنَّبِىُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوٰجِهِ } هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ { حَدِيثاً } هو قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: "لكني كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً" { فَلَمَّا نَبَّأَتْ } أي أخبرت. وقرأ طلحة ـ أنبأت ـ { بِهِ } أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين. وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام ـ كما في البخاري وغيره ـ كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة، كما يشعر به لفظ ـ كان ـ فاستخفها السرور فنبأت بذلك { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي جعل الله تعالى النبـي صلى الله عليه وسلم ظاهراً على الحديث مطلعاً عليه من قوله تعالى: { { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } [التوبة: 33] والكلام على ما قيل: على التجوز، أو تقدير مضاف أي على إفشائه، وجوز كون الضمير لمصدر { نَبَأتُ } وفيه تفكيك الضمائر، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهراً على النبـي صلى الله عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت عليَّ إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل.

{ عَرَّفَ } أي النبـي صلى الله عليه وسلم حفصة { بَعْضَهُ } أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته. والمراد أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل: هو قوله لها: "كنت شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود" { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } هو على ما قيل قوله عليه الصلاة والسلام: "وقد حلفت" فلم يخبرها به تكرماً لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك، وهذا من مزيد كرمه صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الشاعر:

ليس الغبـي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابـي

وجوز أن يكون { عَرَّفَ } بمعنى جازى أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة والسلام إياها، وتجاوز عن بعض، وأيد بقراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبـي عمرو في رواية هارون عنه { عرف } بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى: { أَظْهَرهُ ٱللَّهُ عَلَيهِ } مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة. قال الأزهري في «التهذيب»: من قرأ { عرف } بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسىء إليك: والله لأعرفن لك ذلك، واستحسنه الفراء، وقول «القاموس»: هو بمعنى الإقرار لا وجه له هٰهنا، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى: { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ } لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا؟ { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام. و(هذا) على ما في «البحر» / على معنى بهذا. وقرأ ابن المسيب وعكرمة ـ عراف بعضه ـ بألف بعد الراء وهي إشباع، وقال ابن خالويه: ويقال إنها لغة يمانية.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبـي حاتم عن مجاهد أن النبـي صلى الله عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو، وقيل: بالعكس. وقد جاء إسرار أمر الخلافة في عدة أخبار؛ فقد أخرج ابن عدي وأبو نعيم في «فضائل الصديق»، وابن مردويه من طرق "عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا: إن إمارة أبـي بكر وعمر لفي كتاب الله { وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِىُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوٰجِهِ حَدِيثاً } قال لحفصة: أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحداً" . وأخرج أبو نعيم في «فضائل الصحابة» عن الضحاك أنه قال في الآية: أسر صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبـي بكر عمر، وأخرج ابن أبـي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه.

وفي «مجمع البيان» للطبرسي من أجل الشيعة ((عن الزجاج قال: لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر [حفصة] أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبـي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر)) انتهى.

وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى. ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل، لكن حديثه أصح، والجمع بين الأخبار مما لا يكاد يتأتى. وقصارى ما يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون النبـي صلى الله عليه وسلم قد شرب عسلاً عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطىء جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييباً لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ } [التحريم: 1] الخ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره، والله تعالى أعلم.

واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل: دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب، وقد روي أن عبد الله بن رواحة ـ وكان من النقباء ـ كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولاً بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد:

شهدت فلم أكذب بأن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيـى ويحيـى كلاهما له عمل في دينه متقبل
وأن التي بالجزع من بطن نخلة ومن دانها كل عن الخير معزل

/ فقالت: زدني، فأنشد:

وفينا رسول الله يتلو كتابه كما لاح معروف من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا رقدت بالكافرين المضاجع

فقالت: زدني فأنشد:

شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
وأن محمداً يدعو بحق وأن الله مولى المؤمنينا
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
ويحمله ملائكة شداد ملائكة الإلٰه مسومينا

فقالت: أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك، وفي رواية أنها قالت ـ وقد كانت رأته على ما تكره ـ إذن صدق الله وكذب بصري، فأخبر النبـي صلى الله عليه وسلم فتبسم، وقال: "خيركم خيركم لنسائه" .