التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
-الملك

روح المعاني

والكلام في قوله تعالى: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ } أي الله عز وجل { رِزْقَهُ } بإمساك المطر وسائر مباديه كالذي مر. وقوله تعالى: { بَل لَّجُّواْ } الخ منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل إثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا { فِى عُتُوّ } في عناد واستكبار وطغيان { وَنُفُورٍ } شراد عن الحق لثقله عليهم.

وجعل ناصر الدين { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ } [الملك: 20] الخ عديلاً لقوله تعالى { أَوَ لَمْ يَرَوْا } [الملك: 19] على معنى ألم ينظروا في أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه، وقال إنه كقوله تعالى { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } [الأنبياء: 43] إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعاراً بأنهم اعتقدوا هذا القسم، وجعل قوله تعالى { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ } الخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى أم متصلة ومن استفهامية وجعل في الثانية أم منقطعة ومن موصولة و{ هَـٰذَا ٱلَّذِي } مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائماً مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الوضعين وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه إنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد.

وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبداً بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ } [الرعد: 16] و { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل: 84] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد، وروي ذلك عن أبـي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبـي والزمخشري قال في الموضعين أم من يشار إليه ويقال هذا الذي، وجوز في { هذا } أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند والناصر والرازق.

والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى { أَوَ لَمْ يَرَوْا } [الملك: 19] على ما حققه صاحب «الكشف» قال بعد أن أوضح كلامه: إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ } [الملك: 20] متعلقاً بحديث الخسف وقوله سبحانه { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ } بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فتضطرب نافرة بعدما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه، على أن أم منقطعة والاستفهام تهكم. وكذلك لما قيل أأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم. وأما قوله تعالى { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الملك: 18] فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا وكذلك قوله سبحانه { أَوَ لَمْ يَرَوْا } [الملك: 19] تصوير لقدرته تعالى الباهرة وأن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاغتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي:

أحب الصالحين ولست منهم

انتهى. ولعمري لقد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع:

ويعجبني طرف تدر دموعه على فضله العالي فلله دره

وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق. وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبراً مقدماً و{ هَـٰذَا } مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل.

وقرأ طلحة في الأولى { أَمَّنْ } [الملك: 20] بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة.