التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ
١٨
-الأعراف

روح المعاني

{ قَالَ } استئناف كما مر غير مرة. { ٱخْرُجْ مِنْهَا } أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق { مَذْءُوماً } أي مذموماً كما روي عن ابن زيد أو مهاناً لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفعله ذأم. وقرأ الزهري { مذوماً } بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففاً من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم؛ مكول في مكيل مع أنه من الكيل، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى: { مَّدْحُورًا } وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد، وجوز في هذا أن يكون صفة.

واللام في قوله سبحانه: { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } على ما في «الدر المصون» موطئة للقسم و (من) شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عز اسمه { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّم مِنْكُمْ أَجْمَعينَ } جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء و (من) موصولة مبتدأ صلتها { تَبِعَكَ } والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم { لِمَنْ } بكسر اللام فقيل. إنها متعلقة بلأملان. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك وقيل: إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف / يقدر مؤخراً أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل على قوله سبحانه: { لأَمْلأَنَّ } الخ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله: أن { لأَمْلأَنَّ } في محل المبتدأ و { لَّمَن تَبِعَكَ } خبره كما يرشد إليه بيان المعنى. و { مِنكُمْ } بمعنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه: { { أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [النمل: 55] ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لابليس عليه اللعنة كانت منه عز وجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { { المص } [الأعراف: 1] الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام. وقد يقال: الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفاً كري الشكل قابلاً لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصور المتعددة أوله وآخره سواء، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في «فتوحاته» من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفاً فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال { كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع { { لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 2] أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك { وَكَم مّن قَرْيَةٍ } من قرى القلوب { أَهْلَكْنَـٰهَا } أفسدنا استعدادها { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا } أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب { { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [الأعراف: 4] تحت ظلال الأمل في نهار المشيب { { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } [الأعراف: 8] هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال. وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم هلاكه { وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِى ٱلأَرْضِ } إذ جعلناكم خلفاء فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ } متعددة دون غيركم فإن له معيشة واحدة، وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه معيشة الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان. وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود ومعيشة السر بالكشوف ومعيشة سر السر بالوصال { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف: 10] ولو شكرتم ما رضيتم بالدون. { وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ } أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } فإنه المظهر الأعظم، وفي الخبر "خلق الله آدم على صورته" ، وفي رواية "على صورة الرحمن" { فَسَجَدُواْ } وانقادوا للحق { { إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } [الأعراف: 11] لنقصان بصيرته { { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12] أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا } أي من تلك الحضرة { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } لأن الكبر ينافيها { { فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ } [الأعراف: 13] الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس / { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوباً عنها بل كان محجوباً عن الذات الأحدية { { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] وهو طريق التوحيد { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ } أي لأجتهدن في إضلالهم، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك، وفي «تأويلات النيسابوري» كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والالقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. { { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ } [الأعراف: 17] مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. { قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا } حقيراً { مَّدْحُورًا } مطروداً { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأعراف: 18] فتبقون محبوسين في سجين الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.