التفاسير

< >
عرض

مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
-الأعراف

روح المعاني

وقوله عزَّ شأنه: { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } استئناف مقرر لما قبله منبئ عن الطبع على قلوبهم، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: { وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ } بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم، وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء والجزم عطفاً على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم، ويحتمل أن يكون ذلك تسكيناً للتخفيف كما قرىء { { يُشْعِرُكُمْ } [الأنعام: 109] و { يَنصُرُكُمْ } [الملك: 20] وقد روي الجزم مع النون عن / نافع وأبـي عمرو في الشواذ، وتخريجه على أحد الاحتمالين، وقوله تبارك وتعالى: { يَعْمَهُونَ } حال من مفعول { وَيَذَرُهُمْ } والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة، وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ { مِنْ } وجمعه في حيز الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل كما قيل.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِى ءَاتَيْنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } [الأعراف: 175] إشارة إلى من ابتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلى حظيرة القدس { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } أي مال إلى أرض الطبيعة السفلية { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } في إيثار السوى { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } في أخس أحواله { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } بالزجر { يَلْهَثْ } يدلع لسانه مع التنفس الشديد { { أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [الأعراف: 176] أيضاً. والمراد أنه يلهث دائماً وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } وهم مظاهر القهر { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } الأسرار { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الحجج الكونية { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي { أُوْلَٰـئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ } ليس لهم هم إلا الأكل والشرب { { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف: 179] منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا. ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجاً بقوله تعالى: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } [الأنعام: 38] مع قوله تعالى: { وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24] وبما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء" وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم قال: فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الانعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصاً وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عز وجل حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلاً من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرا قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف انتهى. وهو كلام يورث المؤمن به حسداً للبهائم نفعنا الله تعالى بها وأعاذنا من الحسد { وَللَّهِ ٱلأََسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ } التي يدبر كل أمر باسم منها { { فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] حسب المراتب وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها، وذكر حجة الإسلام الغزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى ثلاثة: الأول: معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافاً يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنه لا بإحساس ظاهره، وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين / تقليداً، والتصميم عليه وإن كان مقروناً بأدلة جدلية كلامية. الثاني استعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقرنين عند الله تعالى، والخلو من هذا الشوق لا يكون إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة، وإما لكون القلب ممتلئاً بشوق آخر مستغرقاً به. والثالث: السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبذلك يصير العبد ربانياً رفيقاً للملأ الأعلى من الملائكة شبيهاً بهم، وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدساً عن الشهوة والغضب فلا تكون أفعاله بمقتضاهما بل الداعي إليها حينئذ طلب التقرب إلى الله تعالى ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين الله سبحانه وتعالى وبين العبد، وقد قال جل وعلا: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [الشورى: 11] لأن المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة فالفرس الكيس وإن كان بالغاً في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن المقومات للإنسانية؛ وأنت تعلم بأدنى التفات أنه لا يتصور الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الاسم لا غير، والكلام في خبر «لا زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل» الخ يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له فخذ ما آتيناك { وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَٰـئِهِ } يطلبون معانيها من غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم سبحانه وتعالى لجهنم { { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف: 180] من الالحاد { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 181] وهم المرشدون الكاملون { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } كالمنكرين على هؤلاء الأمة { { سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 182] أنا سنستدرجهم { وَأُمْلِى لَهُمْ } أمهلهم { إِنَّ كَيْدِى } أخذي { مَتِينٌ } [الأعراف: 183] شديد، وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ وقد شاهدنا ذلك كثيراً نعوذ بالله تعالى من مكره، { أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185] وهي الآيات التكوينية، وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس وفسروا الملك بعالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما وكل جسم يتركب من الاستقصاآت { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } إذ لا هادي سواه سبحانه:

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء

{ { وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف: 186] يترددون لأن استعدادهم يقتضي ذلك، والله تعالى الموفق.