التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٥٤
-الأعراف

روح المعاني

{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطباً بالخطاب العام { إِنَّ رَبَّكُمُ } أي خالقكم ومالككم { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } السبع { وٱلأَرْضِ } بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة [4] على ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى: { { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [الأنفال: 16] أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه: { { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 62]. فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ، نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعاً في تحقق اليوم العرفي، وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا ـ وهو قول عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير الطبري ـ أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق أخذاً له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك. وأخرج ابن أبـي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمى / تلك الأيام بابو جاد وهواز وحطي وكلمون وسعفص وقريشات. وقال محمد بن اسحق وغيره: إن ابتداء الخلق في يوم السبت، وسمي سبتاً لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قال ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل، واستدل لهذا القول بما أخرجه مسلم من حديث "أبـي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" . ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وإن رواه مسلم وإما مؤول، وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق الجمعة فافهم.

وإلى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا: كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم، وفي خلقه سبحانه الأشياء مدرجاً على ما روي عن ابن جبير تعليم للخلق التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث "التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان" وقال غير واحد: إن في خلقها مدرجاً مع قدرته سبحانه على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار. واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون الفاعل موجباً ويكون وجود المعلول مشروطاً بشرائط توجد وقتاً فوقتاً، وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السماوات والأرض وليس ذلك بالمحقق. وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على إبداعها دفعة، وبيانه أن الفاعل إذا كان مختاراً ـ كما يقوله أهل الحق ـ يتوقف وجود المعلول على تعلق الإرادة به فهو جزء العلة التامة حينئذٍ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الإرادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول، وأما إذا كان الفاعل موجباً مقتضياً لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فإن كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه وإلا لزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذٍ قدمه، والأجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فإنه ما لم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم، ولهذا أثبتوا برزخاً بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمبادىء القديمة؛ ففي صورة كون الفاعل موجباً مشروطاً وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الإبداع دفعة فإمكان وجود هذه الأشياء المنبـىء عن عدم التوقف على شيء آخر أصلاً دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لا يجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذٍ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت، وبأن الإبداع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والإرادة والقدرة بكل منها تفصيلاً بخلاف الإيجاد الدفعي لها فإنه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع إجمالاً، واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فإنك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفاً فحرفاً وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر، فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وإرادته وقدرته للأشياء تفصيلاً قائلين: سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأيضاً قالوا: إنا إذا فعلنا شيئاً تصورناه أولاً ثم اعتقدنا / له فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الإرادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للأعضاء نحو إيجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الأمور دخل في وجود ذلك الشيء، ثم قالوا: فكما لا بد في صدور الأفعال الاختيارية فينا من هذه الأمور كذلك لا بد في صدور الأفعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لا يمتنع عليه سبحانه فأثبتوا له تعالى علماً وإرادة وقدرة وفائدة لأفعاله، واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختاراً فالخلق التدريجي لما كان دالاً على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتباراً للنظار.

وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسمٰوات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل: إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين. وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضاً، وقيل: إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئاً فشيئاً على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، وقيل: إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن.

{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى: { { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [يوسف: 100] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال: فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله:

إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير

وقوله:

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعيينة بن الحرث بن شهاب

وذكر الراغب «أن العرش مما لا يعلمه البشر [على الحقيقة] إلا بالاسم، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له ـ تعالى عن ذلك ـ [لامحمولاً]، و (ليس كما) قال قوم: إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب» وفيه نظر، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور، وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبـي ومقاتل ورواه البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات» بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها. وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه «أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه ملياً حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج» ليس نصاً في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول. ومن قوله: والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة. ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكاً سئل عن الاستواء فأطرق وأخذته الرحضاء ثم قال: { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } كما وصف نفسه ولا يقال له: كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر / ما قال، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجهاً الخطاب إلى النبـي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضاً بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف، ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت في صفاء وقتك آمنا من مقتك إلى أن قال: يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين ولا بد لي من نصيب من هذه الرحمة ونصيبـي يا حبيبـي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إليَّ وتقوَّله أهل الغرور عليَّ، زعموا أني أسع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقراً إليَّ ومحمولاً عليَّ إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بـي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلاً ولا بالبعيد عنه فصلاً ولا بالمطيق له حملاً أوجدني منه رحمة وفضلاً ولو محقني لكان حقاً منه وعدلاً يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اهـ.

وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه، واستوى بمعنى استولى واحتجوا عليه بقوله:

قد استوى بشرى على العراق من غير سيف ودم مهراق

وخص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكاً للأشياء كلها ومستولياً عليها ونسب ذلك للأشعرية. وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال: إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي. وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش، ويبعده تعدي الاستواء بعلي، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السموات والأرض وهو كما ترى، وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم، قيل: ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة يونس [3] { { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } فإن { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } جرى مجرى التفسير لقوله: { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستوياً عليه قبل خلق السمٰوات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السمٰوات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال: شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال: إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السمٰوات والأرض، ومنهم من يجعل الإسناد مجازياً ويقدر فاعلاً في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء. ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة. ونقل البيهقي عن أبـي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلاً سماه استواء كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقاً ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال، وحكى الأستاذ / أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن استوى بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكناً فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه، وهو على هذا من صفات الذات. وكلمة { ثُمَّ } تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين.

وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون: استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لا بد أن يقول: هو استيلاء لائق به عز وجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا. وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافاً لبعضهم. ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى.

{ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ } أي يغطي سبحانه النهار بالليل، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطى وجوداً وذلك لا يتصور هنا قالوا: المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له؛ وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس للملابسة. وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار، ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولاً ثانياً والنهار مفعولاً أولاً، وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيداً عمراً، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيداً درهماً فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ { يَغْشَىٰ ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } بفتح الياء ونصب { ٱلَّيْلَ } ورفع { ٱلنَّهَار }، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما. وبأن قوله تعالى: { { وءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يسۤ: 37] يعلم منه ـ على ما قال المرزوقي ـ أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولى، وبأن قوله سبحانه: { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي محمولاً على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر، وقد قالوا: إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى نطير غراباً ذا قوادم جون

ولبعض المتأخرين من أبيات:

وكأن الشرق باب للدجى ماله خوف هجوم الصبح فتح

وحديث إن التغشية أنسب بالليل قيل: مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكان ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما تقرر أن يكون الكلام من قبيل ـ أعطيت زيداً درهماً ـ. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى / بالنهار أي مبيضاً بنور الفجر بناء على ما في «الصحاح» من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معاً كما في قوله تعالى: { { يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } [فاطر: 13] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله ـ على ما قيل ـ، وقال بعض المحققين: إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية.

وجملة { يُغْشِى } ـ على ما قاله ابن جنى ـ على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه: { ثُمَّ ٱسْتَوَى } والعائد محذوف أي: يغشي الليل النهار بأمره أو باذنه، وقوله جل وعلا: { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } بدل من { يُغْشِى } الخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من { ٱلَّيْلَ } أي يغشي الليل النهار طالباً له حثيثاً، و { حَثِيثًا } حال من الضمير في { يَطْلُبُهُ } وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من { ٱلنَّهَارَ } على تقدير قراءة حميد أيضاً. وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم: يجوز في { حَثِيثًا } أن يكون حالاً من الفاعل بمعنى حاثاً أو من المفعول أي محثوثاً، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلباً حثيثاً، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار ـ على ما قال الإمام وغيره ـ إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهى أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضاً وهو الكرسي والسمٰوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون، وفسر ـ فيما نقل عنه ـ قوله سبحانه: { يَغْشَىٰ ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } بيجعله غاشياً له غشيان الرجل المرأة وقال: ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله سارياً في جميع الموجودات، وإن صح هذا فما أصح قولهم: الليل حبلى وما ألطفه، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن ونبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقاً، ويقرب من هذا قوله:

أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء ـ على ما نقل عن القفال ـ أنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجهاً لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا، وذكر صاحب «الكشف» في توجيه اختيار صاحب «الكشاف» هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد [3] هو الليل، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظراً إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال: والنكتة في ذلك أن تسخر الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه / أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهٰهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيداً لقوله سبحانه: { { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ } [الأعراف: 55] أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل، وللجمع بين القراءتين أيضاً اهـ فتدبر ولا تغفل. وقرىء { يُغْشِى } بالتشديد للدلالة على التكرار.

{ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ بِأَمْرِهِ } أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما يشاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمراً على سبيل التشبيه والاستعارة، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته. ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال: إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصوص إلى حيث شاء. ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكاً وفهماً لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقاً، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكاً لغير ما ذكر، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات. وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكاناً بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على انحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعاً لجواز أن يكون نصفه مضيئاً من ذاته ونصفه مظلماً ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدراً ثم يميل نصفه المظلم شيئاً فشيئاً إلى أن يؤول إلى المحاق. وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلاً. وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر. والنصب بالعطف على { ٱلسَّمَـٰوَاتِ } والحالية كما أشرنا إليه، وجوز تقدير جعل وجعل الشمس مفعولاً أولاً و { مُسَخَّرٰتٍ } مفعولاً ثانياً.

{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } كالتذييل للكلام السابق أي أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السمٰوات والأرض دخولاً أولياً وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه: { { مُسَخَّرٰتٍ بِأَمْرِهِ } [الأعراف: 54] لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف. وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضاً، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في «تفسير الخازن» وليس بشيء كما لا يخفى. وأخرج ابن أبـي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات.

{ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي تقدس وتنزه عن كل نقص ويدخل في ذلك تنزهه تعالى عن نقص في الخلق أو في الأمر دخولاً أولياً. ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه كما في «القاموس». وقال الإمام: «إن البركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار / الفاضلة فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا». واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجيء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا، وقال البيضاوي: المعنى: تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة.