التفاسير

< >
عرض

فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٧٢
-الأعراف

روح المعاني

{ فَأَنْجَيْنَاهُ } فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه { وَٱلَّذينَ مَعَهُ } أي متابعيه في الدين { برَحْمَةٍ } عظيمة لا يقادر قدرها { منَّا } أي من جهتنا. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتاً لرحمة مؤكداً لفخامتها على ما تقدم غير مرة { وَقَطَعْنَا دَابرَ ٱلَّذينَ كَذَّبُوا بآيَاتنَا } كناية عن الاستئصال. والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم. { وَمَا كَانُوا مُؤْمنينَ } عطف على { كذبوا } داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلاً. وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم. وبيانه ـ على ما قال الطيبـي ـ / أنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان { { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } [غافر: 7] الآية، وقال بعضهم: فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى: { { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } [يونس: 13] فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم.

وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم. وقصتهم ـ على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما ـ أن عاداً قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي صداء وصمود والهباء فبعث الله تعالى إليهم هوداً عليه السلام نبياً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتواً وتجبراً { { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت: 15] فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة يومئذٍ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلاً منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال ولقمان بن عاد الأصغر ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجاً من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال: هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا: قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما
فتسقى أرض عاد إن عاداً قد أمسوا ما يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهاراً ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هٰهنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما

فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال: مرثد بن سعد والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال:

عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وخلا العماء
/ وإن إله هود هو إلٰهي على الله التوكل والرجاء

فقالوا لمعاوية: أحبس عنا مرثداً فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول: اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم وقال القوم: اللهم أعط قيلاً ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمداً لا تبقى من آل عاد أحداً وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا: ما رأيت قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع منهم أحداً إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ الأنفس، ثم إنه عليه السلام أتى هو ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم، وفيهاـ كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط ـ قبور تسعة وسبعين نبياً منهم أيضاً نوح وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام، وأخرج البخاري في «تاريخه». وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة، وأخرج ابن عساكر عن ابن أبـي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات: على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ } أي سماوات الأرواح { وَٱلأَرْضَ } أي أرض الأبدان { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وهي ستة آلاف سنة وإن يوماً عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبـي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات. وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا ـ «الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب» ـ. وتمام الكلام عليها في «شمس المعارف» للإمام البوني قدس سره { يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ } أي ليل البدن { ٱلنَّهَارَ } أي نهار الروح { يَطْلُبُهُ } بالتهيء والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه { حَثِيثاًً } أي سريعاً { وَٱلشَّمْسَ } أي شمس الروح { وَٱلْقَمَرَ } أي قمر القلب { وَٱلنُّجُومَ } أي نجوم الحواس { { مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [الأعراف: 54] الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى: { { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمٰن: 29] { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ } أي اعبدوه { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية { { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [الأعراف: 55] المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } / أي أرض البدن { بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } بالاستعداد { { وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } [الأعراف: 56] لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال { وهو الذي يرسل الرياح } أي رياح العناية { بين يدي رحمته } أي تجلياته { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } بأمطار المحبة { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ } قلب { مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ } ماء المحبة { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } من المشاهدات والمكاشفات { كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ } القلوب الميتة من قبور الصدور { { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57] أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ } وهو ما طاب استعداده { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } حسناً غزيراً نفعه { وَٱلَّذِي خَبُثَ } وهو ما ساء استعداده { { لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [الأعراف: 58] لا خير فيه { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً } أي نوح الروح { { إِلَىٰ قَوْمِهِ } [الأعراف: 59] من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } كالقلب وأعوانه { في الفلك } وهو سفينة الأتباع { وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } في بحار الدنيا ومياه الشهوات { { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } [الأعراف: 64] عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى، وعلى هذا المنوال ينسح الكلام في باقي الآيات. ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى «الفصوص» يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.