التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١
-نوح

روح المعاني

{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً } هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب والكرماني معناه بالسريانية الساكن، وصرف لعدم زيادته على الثلاثة مع سكون وسطه، وليس بعربـي أصلا وقول الحاكم في «المستدرك» إنما سمي نوحاً لكثرة نوحه وبكائه على نفسه واسمه عبد الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه السلام رأى كلباً أجرب قذراً فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك. والمشهور أنه عليه السلام ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة / ابن خنوخ بفتح الخاء المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة، وشاع أخنوخ بهمزة أوله وهو ادريس عليه السلام بن يرد بمثناة من تحت مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام وهذا يدل على أنه عليه السلام بعد إدريس عليه السلام. وفي «المستدرك» أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون وفيه أيضاً مرفوعاً «بعث الله تعالى نوحاً لأربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا» وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاماً وفي «التهذيب» للنوويرحمه الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم السلام عمراً وقيل إنه أطول الناس مطلقاً عمراً فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالاتفاق لئلا يرد الخضر عليه السلام وقد يجاب بغير ذلك.

وهو على ما قيل أول من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر على الشرك وأهلكت أمته. والحق أن آدم عليه السلام كان رسولاً قبله أرسل إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح في قول، وفي آخر لم يكن في شريعته إلا الدعوة إلى الإيمان، ويقال لنوح عليه السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني. وكان دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيماً. واختلف في مكان قبره فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك.

وفي إسناد الفعل إلى ضمير العظمة مع تأكيد الجملة ما لا يخفى من الاعتناء بأمر إرساله عليه السلام.

{ إِلَىٰ قَوْمِهِ } قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لأهل الأرض كافة لاختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم البعثة من بين المرسلين عليهم السلام وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول بعمومه أمر اتفاقي. واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل.

{ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } أي أي أنذر قومك على أن (أن) تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه فلا محل للجملة من الإعراب أو بإنذارهم أي بإنذارهم أو لإنذارهم على أن (أن) مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران ونص أبو حيان على جواز هذا الوجه في «بحره» هنا ومنعه في موضع آخر وحكى المنع عنه ابن هشام في «المغني» وقال: زعم أبو حيان أنها لا توصل بالأمر وأن كل شيء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية واستدل بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني أنهما لم يقعا فاعلاً ولا مفعولاً لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع.

والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي والاستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور ثم إنه يُسَلِّم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله تعالى { وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ } [النور: 9] إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلا إذا كان مفعولاً مطلقاً نحو سقيا ورعيا وعن الثاني أنه إنما منع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلاً ولا مفعولاً وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم فاحش لأن حروف الجر مطلقاً لا تدخل إلا على الاسم أو ما في تأويله انتهى.

وأجاب بعضهم عن الأول أيضاً بأنه عند التقدير يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثلاً إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه بالأمر بإنذارهم. وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم إنه يكون المعنى في / نحو أمرته بأن قم أمرته بالأمر بالقيام وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلا تقديره لأن مآل العبارات أعنى أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وإن قم بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد. وفي «الكشف» لو قيل إن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر بالمصدر تبعاً وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقاً لكان حسناً وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر النفي بالمصدر على سبيل التبعية وأما إذا صرح بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضاً هذا ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل وادعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح عليه السلام لم يكن ملتبساً بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس بقول الله تعالى له عليه السلام { أَنذِرْ } ولما كان هذا القول منه تعالى لطلب الإنذار قيل المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار وكأن هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام ابن هشام المتقدم آنفاً. وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات فقال كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحاً في { أَنذِرْ } ونحوه وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له وإن اتفقوا عليه فاعرفه انتهى.

وأقول لعلهم أرادوا بفوات معنى الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم يريدوا أنه يفوت مطلقاً كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على علم ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام إن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي والاستقبال الخ فكأنه قيل لا نسلم أن هذا الفوات باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي والاستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو { أَنَّ غَضَبَ } [النور: 9] وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس بلازم وليس بفوات مطلقاً لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به فتدبر.

وقرأ ابن مسعود (أنذر) بغير أن على إرادة القول أي قائلين أنذر.

{ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبـي أو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس، والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى لهم عذر ما أصلاً.