التفاسير

< >
عرض

لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً
٢٨
-الجن

روح المعاني

{ لِيَعْلَمَ } متعلق بيسلك وعلة له، والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضى الرسول ويصدق تصديقاً جازماً ثابتاً مطابقاً للواقع { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل بنوا تميم قتلوا زيداً فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهو جبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء { رِسَـٰلَـٰتِ رَبّهِمْ } وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط وعلى هذا فليكن { مَنِ } [الجن: 27] مبتدأ وجملة { إِنَّهُ يَسْلُكُ } خبره وجىء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى: { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي بما عند الرصد { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْء } أي مما كان ومما سيكون { عَدَدًا } أي فرداً فرداً حال من فاعل { يَسْلُكُ } بتقدير قد أو بدونه جىء به لمزيد الاعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم، فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق ما برسالته والحال أنه تعالى قد أحاط علماً بجميع أحوال أولئك / الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل { أَبْلَغُواْ } جىء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال أن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ.

هذا ما سنح لذهني القاصر في تفسير هذه الآيات الكريمة ولست على يقين من أمره بيد أن الاستدلال بقوله سبحانه { فَلاَ يُظْهِرُ } [الجن: 26] الخ على نفي كرامة الأولياء بالإطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى: { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب - وأكثر استعمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في «شرح المقاصد» - لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي، كأن يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } [الأنعام: 103] ولا يرد أن الاستثناء يقتضي أن يكون المرتضى الرسول مظهراً على جميع غيبه تعالى بناءً على أن الاستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحداً كائناً من كان على جميع ما يعلمه عز وجل من الغيب وذلك لانقطاع الاستثناء المصرح به ابن عباس، وكذا لا يرد أن الله تعالى نفي إظهار شيء من غيبه على أحد إلا على الرسول فيلزم أن لا يظهر سبحانه أحداً من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } [الجن: 27] الخ وذلك ليس إلا فيه كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك، ويلزم أن لا يظهر أيضاً أحداً من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناءً على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولاً، وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة، وإنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك، وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقاً برسالته محل توقف.

وللمفسرين هٰهنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول: لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول بكرامة الولي بالإطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ } [الجن: 26] الخ دالاً على نفيها ولذا قال الزمخشري: إن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالإطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط انتهى أنجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام: ليس في قوله تعالى { عَلَىٰ غَيْبِهِ } صيغة عموم فيكفي العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد، ويؤكد ذلك وقوع الآية بعد قوله تعالى: { قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } [الجن: 25] والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال: فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال سبحانه { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله، قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [الفرقان: 25] ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت، وأيضاً يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعاً كأنه قيل عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحداً، ثم قيل إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى.

وتعقب بأن في غيبه / ما يدل على العموم كما سمعت أولاً، والسياق لا يأباه اللهم إلا أن يطعن في ذلك، وأيضاً ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } [الجن: 27] الخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأرحام عند وضعه إلى غير ذلك، وأيضاً الانقطاع على الوجه الذي ذكره بعيد جداً إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع.

وقيل إن الإظهار على الغيب بمعنى الإطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم، والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد: 23] وقوله سبحانه: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [البقرة: 276] وقد نص على ذلك العلامة التفتازاني، فيكون المعنى فلا يظهر على شيء من غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك الخ ولا يرد كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم.

وتعقب بأن من الصوفية من قال كالشيخ محي الدين قدس سره بنزول الملك على الولي وإخباره إياه ببعض المغيبات أحياناً ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } [الأحقاف: 13] الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث، بل قد يحصل له بواسطة الإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول، وأيضاً يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر، والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلاً، وأيضاً يلزم أن ما يحصل للنبـي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى. وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة.

وقال صاحب «الكشف» في الرد على الزمخشري الغيب إن كان مفسراً بما فسره في قوله تعالى { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3] فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بإعلامه تعالى أو بنصبه الدليل وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى أن تهذيب طرق الأدلة أيضاً بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل، وأهل السنة عن آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلا رسول أو آخذ منهم وليس فيه نفي الكرامة أصلاً، وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقاً فلا بد من التخصيص بالاتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضاً، وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [الأنعام: 73] فلا بد أيضاً من التخصيص، وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل بدلالة الإضافة إلا رسولاً وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ولا كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع من إطلاع الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف. ثم لو سلم فالثاني، إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحداً إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز إطلاع غير الرسول على البعض، وأما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجع إلى ما اخترناه وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية، ومنه يظهر أن الاستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإن كان إبطالهما حقاً لانكره فضلاً عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبـي عن الواحدي / والزجاج وصاحب «المطلع» انتهى وبحث فيه بأن حمل (غيبه) على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل مما لا يناسب السياق، وبأن ظاهر ما قرره على احتمال الاستغراق يقتضي على تقدير اتصال الاستثناء وإيجاب ضد ما نفى للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل.

وذكر العلامة البيضاوي أولاً ما يفهم منه على ما قيل حمل (غيبه) على العموم مع الاختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالى وحمل { فَلاَ يُظْهِرُ } [الجن: 26] على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الاستثناء منقطعاً على أن المعنى: فلا يظهر على جميع غيبه المختص به علمه تعالى أحداً إلا من ارتضى من رسول فيظهره على بعض غيبه حتى يكون إخباره به معجزة، فلا يتم الاستدلال بالآية على نفي الكرامة. وفسر الاختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علماً حقيقياً يقينياً بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه، وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علماً للغيب إلا بحسب الظاهر وبالنسبة لبعض البشر. وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لم ينصب عليه دليل ولا يقدح في الاختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى إذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم.

وقال ثانياً في الجواب عن الاستدلال: ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقياً من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه، وحاصله أن الاستدلال إنما يتم أن لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميعاً أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أولا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لأنه لا يكون إلا بالواسطة، وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإمام والتفتازاني في «شرح المقاصد». وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضاً، وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنه قد قيل عليه بعد ما قيل. وأغرب ما قيل في هذا المقام كون (إلا) في قوله تعالى: { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الجن: 27] للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى.

ثم إن تفسير قوله تعالى: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } الخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم آية من القرآن إلا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبـي صلى الله عليه وسلم ثم قرأ { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } الآية وقد يكون مع الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء.

وقال ابن كمال: لاحت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } [الجن: 27] في الآية القوى الظاهرة { وَمِنْ خَلْفِهِ } القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه: { يَسْلُكُ } الخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كي لا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب «التيسير» وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة { يَسْلُكُ } وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه.

وذهب كثير إلى أن ضمير { لِّيَعْلَمَ } لله تعالى وضمير { أَبْلَغُواْ } / إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى { مَن } كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه تعالى يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علماً مستتبعاً للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجوداً حاصلاً بالفعل كما في قوله تعالى { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ } [محمد: 31] فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد، وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما والإشعار بترتب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما. وقوله تعالى: { وَأَحَاطَ } الخ إما عطف على { لاَ يُظْهِرُ } [الجن: 26] أو حال من فاعل { يَسْلُكُ } جىء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور، أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن { لِّيَعْلَمَ } متضمن معنى علم فصار المعنى قد علم ذلك وأحاط الخ.

وجوز أن يكون ضمير (يعلم) للرسول الموحى إليه وضمير { أَبْلَغُواْ } للرصد النازلين إليه بالوحي، وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل سواه و{ أَحَاطَ } الخ عطف على { أَبْلَغُواْ } أو على { لاَ يُظْهِرُ } وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا، وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في «البحر» إلا في الآخرة. وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا، وقيل ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع، وكلا القولين كما ترى.

ونصب { عَدَداً } عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف، وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجَوَّزَ أن يكون حالاً أي معدوداً محصوراً ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصباً على المصدر بمعنى إحصاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك.

وقرىء { عالم } بالنصب على المدح و{ علم } فعلاً ماضياً { الغيب } بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي { ليعلم } بالبناء للمفعول والزهري وابن أبـي عبلة { ليعلم } بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا الخ وقرأ أبو حيوة (رسالة) بالإفراد وقرأ ابن أبـي عبلة { وأحيط... وأحصى كل } بالبناء للمفعول في الفعلين ورفع { كل } على النيابة والفاعل هو الله عز وجل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علماً والمحصي لكل شيء عدداً.