التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً
٣
-الجن

روح المعاني

{ وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } اختلفوا في قراءة (أن) هذه وما بعدها إلى { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } [الجن: 14] وتلك اثنتا عشرة، فقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة: ما هنا { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [الجن: 4] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [الجن: 6] وقرأ الباقون بكسرها في الجميع. واتفقوا على الفتح في { { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } [الجن: 1] { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } [الجن: 18] لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحى بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحي. واختلفوا في { { أَنَّهُ لَمَّا قَامَ } [الجن: 19] فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه. ووجه الكسر في (أن) هذه وما بعدها إلى { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } [الجن: 14] ظاهر كالكسر في { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } [الجن: 1] لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته، وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري: هو العطف على محل الجار والمجرور فى { فَآمَنَّا بِهِ } [الجن: 2] كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل إنه بتقدير الجار لاطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديداً كما في «الكشف».

وضعف مكي العطف على ما في حيز { آمَنَّا } فقال: فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن أنفسهم لأصحابهم. وأجيب عن الذاهبين إليه بأن الإيمان والتصديق يحسن في بعض تلك المعطوفات بلا شبهة فيمضي في البواقي ويحمل على المعنى على حد قوله:

وزججن الحواجب والعيونا

فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه. وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل { أُوحِيَ } أعني { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } كما في { أَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قل أوحي إليَّ كيت وكيت وهذه العبارات. وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون (أن) في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية، ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من (أن) وما بعدها وإلا لما صح أن يقال الموحى كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت (أن) في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل.

والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز وجل، وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان، وقيل الغنى وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور. والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت.

وقوله عز وجل: { مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَداً } عليها تفسير للجملة / وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز وجل بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه.

وقرأ حميد بن قيس (جد) بضم الجيم قال في «البحر» ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى (ربنا) من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم. وقرأ عكرمة (جد) منوناً مرفوعاً (ربنا) بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضاً و(ربنا) خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من (جد). وقرأ أيضاً (جداً) منوناً منصوباً على أنه تمييز محول عن الفاعل. وقرأ هو أيضاً وقتادة (جداً) بكسر الجيم والتنوين والنصب (ربنا) بالرفع قال ابن عطية نصب (جداً) على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكناً وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعالياً جداً. وقرأ ابن السميفع (جدا ربنا) أي جدواه ونفعه سبحانه، وكأن المراد بذلك الغنى فلا تغفل.