التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
-الإنسان

روح المعاني

أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته. و(هل) بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هل مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معاً ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل:

سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله:

ولا للمـابهـم أبداد واه

بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظاً على أن السيرافي قال الرواية الصحيحة أم هل رأونا؟ على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في «شرح شواهد المغني» الذي رأيته في نسخة قديمة من «ديوان زيد» فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من / النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي «المغني» ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه.

والمراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس. والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل. والدهر الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي. وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكراً أي في المراد به عرفاً في الأيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال والله لا أكلمه دهراً؟ والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفاً ومنكراً كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضاً وبها ما نوى على الصحيح. وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوى الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلاً كل بدليل وقوله صلى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه "أصحابـي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" إلا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد البصير، ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة.

والمعنى هنا قد أتى أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئاً مذكوراً بل كان شيئاً غير مذكور بالإنسانية أصلاً أي غير معروف بها، على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنساناً ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر.

وجملة { لَمْ يَكُن } الخ حال من (الإنسان) أي غير مذكور، وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [البقرة: 48] وإطلاق الإنسان على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلاً منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول.

وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ } فإن (الإنسان) فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموماً وخصوصاً فاتت الملايمة، ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا لا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص نعم دل قوله سبحانه { مِن نُّطْفَةٍ } على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازاً في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبـي وابن عباس أيضاً وقال في رواية أبـي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح، وحكى الماوردي عنه أن الحين المذكور هٰهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه قال إن من الحين حيناً لا يدرك وتلا الآية فقال والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى.

ورأيت لبعض المتصوفة أن { هَلْ } للاستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي: ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه / بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زماناً ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيـي الدين في الباب 358 من "الفتوحات المكية" لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه "كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني" فجعل نفسه كنزاً والكنز لا يكون إلا مكتنزاً في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزاً فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزاً فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى.

ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [يس: 12] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنا نقول كون (هل) هنا للإنكار منكر وإن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الإيجابـي أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقرأ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال ليتها تمت وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوتب في قوله هذا فأخذ عموداً من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا.

{ أَمْشَاجٍ } جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج يقال مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج وهو صفة لنطفة. ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد، أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظاً وصفرة وبياضاً وطبيعة وقوة وضعفاً حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته. وفي بعض الآثار أن ما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه. وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي متكسرة وبرد أكياش أي مغزول غزله مرتين واختاره الزمخشري، والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالاً لا يكون جمعاً وحكي عنه أنه ذهب إلى ذلك في أنعام.

ومعنى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان، وقيل اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرا كما يخضر الماء بالمكث وروي عن الكلبـي. وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال الأمشاج العروق التي في النطفة وروي ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق وروي عن عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال أمشاج أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح.

وقوله تعالى: { نَّبْتَلِيهِ } حال من فاعل { خَلَقْنَا } والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة لأن المنقول يظهر في كل طور ظهوراً آخر كظهور نتيجة الابتلاء والامتحان بعده وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل إن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سميعاً بصيراً لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه: { فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعاً بصيراً / لنبتليه وحكي ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظاً لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول وهذا الجعل كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ }.