التفاسير

< >
عرض

وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
٣٠
-النازعات

روح المعاني

{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ } الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط وانتصاب (الأرض) بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى.

ومعنى قوله تعالى: { دَحَـٰهَا } بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبـي الصلت:

وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي

وقيل دحاها سواها وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا

والأكثرون على الأول وأنشد الإمام بيت زيد فيه.

والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين. أخرج عبد بن حميد وابن أبـي حاتم عنه أن رجلاً قال له آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى فقال إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ: قَال { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] حتى بلغ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [فصلت: 11] وقوله تعالى: { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } قال خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدما خلق السماء وإنما قوله سبحانه { دَحَـٰهَا } بسطها.

وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً. وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولاً ثم دحوها ثانياً خلق مادتها أولاً ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] إن السماء خلقت مادتها أولاً ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم.

وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى: { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } } [البقرة: 29] الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السمٰوات ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السمٰوات. وأجيب بأن { خَلَقَ } في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولاً فأولاً. سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل. ومن الناس من حمل { ثُمَّ } على التراخي الرتبـي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض. وقال عصام الدين إن { بَعْدَ ذَلِكَ } هنا كما في قوله تعالى { عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 13] يعني فعل بالأرض ما فعل بعدما سمعت في السماء والمراد التأخير في الإخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلاً ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة وأيضاً قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر، وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الاشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد.

وبالجملة إنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر فقال ابن الطاشكبرى: نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة وأن البعدية هٰهنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى { خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] وكذا في قوله سبحانه { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } [فصلت: 10] وقالوا يؤيد ما ذكر قوله تعالى { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع سمٰوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام. ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على خلق السمٰوات والعكس هٰهنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء، ثم خلق السماء والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى.

وفي «الكشف» أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلا ما نقل الواحدي في «البسيط» عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها، والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه { بَعْدَ ذَلِكَ } فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية. والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من إطباق المفسرين فالوجه أن يجعل { ٱلأَرْضَ } منصوباً بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمراً على شريطة التفسير جعل { بَعْدَ ذَلِكَ } إشارة إلى المذكور سابقاً من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيهاً على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملاً ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان { بَعْدَ ذَلِكَ } بهذا / المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل ثم بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن إنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السمٰوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى: { { كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـٰهُمَا } [الأنبياء: 30] الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخاناً سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين (ثم) في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روى أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السمٰوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى.

والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيراً لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المرام.