التفاسير

< >
عرض

أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

روح المعاني

{ أُوْلَـٰئِكَ } أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة من حيث إنهم كذلك { هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال. وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "كيف أصبحت يا حارث قال: أصبحت مؤمناً حقاً فقال صلى الله عليه وسلم: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام: يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً" ونصب { حَقّاً } على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيماناً حقاً أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر، وقيل: إنه يجوز أن يكون مؤكداً لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمناً حقاً لأنه سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواماً / على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى.

وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روي عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء، وهو كما قال الإمام [الرازي] مذهب ابن مسعود وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه؛ وروي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: { وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ } [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله { بَلَى } حين قيل له { { أَوَلَمْ تُؤْمِن } [البقرة: 260]؟ فانقطع قتادة؛ قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول: قول إبراهيم عليه السلام { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بعد قوله { بَلَى } طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء.

وفي «الكشف» أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الإيمان مطلقاً أما إذا قيل: هل أنت مؤمن بالقدر مثلاً فقال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للإبهام فيما ليس له فائدة، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الإيمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلاً وتيمناً، وذلك لأن الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعاً بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال: إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركاً وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بد منه نظراً إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله تعالى ومن فوض كفي لا نظراً إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكاً في الإيمان، وقد جاء «من شك في إيمانه فقد كفر» وما أحسن ما نقل عن الحسن أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } [الأنفال: 2] الخ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ وهذا ونحوه ما يجعل الخلاف لفظياً، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة.

{ لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي، وفي الخبر عن أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم" وعن الربيع بن أنس "سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة" ووجه الجمع على الوجهين ظاهر، والتنوين للتفخيم والظرف، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعني لهم من الاستقرار. وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه { دَرَجَـٰتٌ } لأن المراد بها الأجور، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات، والجملة جوز أن تكون خبراً ثانياً لأولئك وأن تكون مبتدأة مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل: لهم درجات.

{ وَمَغْفِرَةٌ } عظيمة لما فرط منهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعدَّ لهم من نعيم الجنة. وأخرج ابن أبـي حاتم عن محمد القرظي قال: إذا سمعت الله تعالى يقول { { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الحج: 50] فهو الجنة. والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة. / وقال بعض المحققين: معنى كون الرزق كريماً أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى، وجعله نفسه كريماً على الإسناد المجازي للمبالغة، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الإنفاق، والمناسبة في ذلك ظاهرة، وإلى هذا يشير كلام أبـي حيان أو يقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبـي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية: المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.