التفاسير

< >
عرض

يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ
٢٥
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ
٢٦
-المطففين

روح المعاني

{ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه قال حسان:

يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمُ بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيقِ السَّلْسَل

وفسر هٰهنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول.

{ مَّخْتُومٍ * خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ } أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وأن الختم على حقيقته وكذا إسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء - أعني الاستيثاق منه بالختم - طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهاراً لكرامة شاربه وكأن ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان عن ذلك بالختم.

وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكأن ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالانتهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى.

وقيل إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبـي عبلة والكسائي (خاتمه) بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضاً فإن فاعلاً بالفتح يكون أيضاً اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعني { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [المطففين: 23] و { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ } [المطففين: 24] الخ و { يُسْقَوْنَ } [المطففين: 25] الخ قيل أحوال مترادفة وقيل مستأنفات كجملة { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } [المطففين: 22] الخ وقعت أجوبة للسؤال في حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم.

{ وَفِى ذَلِكَ } إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ماذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: { فَلْيَتَنَافَسِ } وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس / وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أو لا في غيره من ملاذها ونعيمها { ٱلْمُتَنَـٰفِسُونَ } أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى وقيل أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى: { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ } [الصافات: 61] أي فليستبق في تحصيل ذلك المتسابقون.

وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها قال الواحدي نفست الشيء أنفسه نفاسة والتنافس تفاعل منه كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به وقال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه ويقال نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه وفي «مفردات الراغب» ((المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره)) وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى.

واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير وفليتنافس في ذلك وأجيب بأنه بتقدير القول أي ويقولون لشدة التلذذ من غير اختيار في ذلك فليتنافس المتنافسون أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك وقيل الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون. وتقديم الظرف ليكون عوضاً عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم.