التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ
٧
-الأعلى

روح المعاني

{ إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلاً مما سنقرئكه شيئاً من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه، قيل أي أبداً، قال الحسن وقتادة وغيرهما وهذا مما قضى الله تعالى نسخة وأن يرتفع حكمه وتلاوته. والظاهر أن النسيان على حقيقته. وفي «الكشاف» ((أي إلا ما شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته)) وجَعَلَ النسيان عليه بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته يترك فينسى فكأنه قيل بناه على إرادة المعنيين في الكتايات سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئاً منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما شاء الله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا، وأنا لا أرى ضرورة إلى اعتبار ذلك والباء في (برفع) الخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي البعيد لذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم إخطاره في البال لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضاً إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لاستبعاد الذهاب به عن حفظه عليه الصلاة والسلام وهو كالسبب المجوز لذلك وأياً ما كان فلا حاجة إلى جعل معنى { فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6] فلا تترك تلاوة شيء منه والعمل به فتأمل.

ثم إنه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما قضى سبحانه إن يرتفع / حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع حكمه وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبـي صلى الله عليه وسلم له فإن من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات» الحديث وكونه صلى الله عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه الصلاة والسلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلاً. وقيل كان صلى الله عليه وسلم يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل عليه السلام فقيل لا تعجل فإن جبريل عليه السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ثم لا تنساه إلا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد النسيان. وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وإن كان واجباً إلا أن العلم به لا يستفاد من هذا المقام.

وقيل إن الاستثناء بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلا ما لا يعلم لأن المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الاستثناء فكأنه قيل فلا تنسى شيئاً إلا شيئاً قليلاً وقد جاء في «صحيح البخاري» وغيره "أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبـي أنها نسخت فسأله عليه الصلاة والسلام فقال نسيتها" ثم إنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على نسيانه القليل أيضاً بل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره ففي «البحر» أنه صلى الله عليه وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن بشير(( " لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا" )) وقيل الاستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازاً كما في قولهم قل من يقول كذا، قيل والكلام عليه من باب:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

البيت، والمعنى فلا تنسى إلا نسياناً معدوماً. وفي «الحواشي العصامية على أنوار التنزيل» أن الاستثناه على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه. وقد يقال الاستثناء من أعم الأوقات أي فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في قوله تعالى في أهل الجنة { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [هود: 107] وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال إنه تعالى ما شاء الله أن ينسي النبـي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أن المقصود من الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة والسلام ناسياً لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [الإسراء: 86] ثم انا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال له صلى الله عليه وسلم { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك البتة وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن يعرفه الله تعالى قدرته حتى يعلم صلى الله عليه وسلم أن عدم النسيان من فضله تعالى وإحسانه لا من فوته أي حتى يتقوى ذلك جداً أو ليعرف غيره ذلك وكأن نفي أن يشاء الله تعالى نسيانه عليه الصلاة والسلام معلوم من خارج ومنه آية { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [القيامة: 16] الآية وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء وإلى الوجه الذي قبله وأباهما غاية الآباء لعدم الوقوف على حقيقتهما وقال لا ينبغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه.

ثم إن المراد من نفي نسيان شيء من القرآن نفى النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه صلى الله عليه وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق ليس كذلك وقد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما ليس منها أو منها وهو من الآداب والسنن ونُقِلَ هذا عن الإمام الرازي عليه الرحمة فليحفظ.

والالتفات إلى الاسم الجليل على سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات. وربط الآية بما قبلها على الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في «الإرشاد» وقال أبو حيان إنه سبحانه لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح وكان لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلى الله عليه وسلم يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عز وجل يقرئه وأنه لا ينسى إلا / ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا يخفى ولو قيل إن { سَنُقْرِئُكَ } [الأعلى: 6] استئناف واقع موقع التعليل للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أهون مما ذكر ونحوه كونه في موقع التعليل على معنى هيـىء نفسك للإفاضة عليك بتسبيح الله تعالى لأنا سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبـي بعضاً منها ونقله ابن الشيخ في «حواشيه على تفسير البيضاوي» والله تعالى أعلم بصحته.

{ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } تعليل لما قبله والجهر هنا ما ظهر قولاً أو فعلاً أو غيرهما وليس خاصاً بالأقوال بقرينة المقابلة أي أنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحي إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية. وقيل توكيد لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده وقيل توكيد لقوله تعالى: { سَنُقْرِئُكَ } الخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه السلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وإنساء أو فلا تخف فإني أكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1] وهذا ليس بشيء كما ترى.