التفاسير

< >
عرض

أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
١٧
-الغاشية

روح المعاني

استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ } الخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار البعث كما لا يخفى. والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر / يقتضيه المقام. وكلمة (كيف) منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع { خُلِقَتْ } كما في قوله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } [البقرة: 28] معلقة لفعل النظر. والجملة بدل اشتمال من (الإبل) وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم: عرفت زيداً أبو من هو؟ على أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على (كيف) بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكي عنهم أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع؟ كما حكي عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين؟ وذكر أبو حيان في «البحر» و«التذكرة» وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته. وقيل (كيف) بدل من (الإبل) وتعقبه في «المغني» بما في بعضه نظر وجوز في «مجمع البيان» كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى.

والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه فقالوا أبل وتأبل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا ما آبل زيداً ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسماً جاء على فعل بكسر الفاء والعين غير إبل. أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيآتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ؟أظماءها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوِرْدَيْنِ وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذٍ الحوازى بالحاء المهملة والزاي واكتفائها باليسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك.

وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً ولهم على أحوالها أتم وقوف. وعن الحسن أنها خصت بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترييضه ولا يحلب دره.

وقال أبو العباس المبرد الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي أرسالاً كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في هيآتها أحياناً تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز، وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها.

قال الإمام التناسب فيها أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل وإذا نظر لما فوقه رأى السماء وإذا نظر يميناً وشمالاً رأى الجبال وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار.

وقال عصام الدين: إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن مالهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان ذكرها ألطف وألطف.

وقرأ الأصمعي عن أبـي عمرو (إلى الإبل) بسكون الباء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما (إبل) بتشديد اللام ورويت عن أبـي عمرو وأبـي جعفر والكسائي وقالوا إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة.