التفاسير

< >
عرض

فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
-التوبة

روح المعاني

{ فَسِيحُواْ فِى ٱلأَرْضِ } أي سيروا فيها حيث شئتم، وأصل السياحة جريان الماء وانبساطه ثم استعملت في السير على مقتضى المشيئة، ومنه قوله:

لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلاً أمامي تسيح

ففي هذا الأمر من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة { فِي ٱلأَرْضِ } زيادة في التعميم، والكلام بتقدير القول أي فقولوا لهم سيحوا، أو بدونه وهو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والمقصود الإباحة والإعلام بحصول الأمان من القتل والقتال في المدة المضروبة، وذلك ليتفكروا ويحتاطوا ويستعدوا بما شاءوا ويعلموا أن ليس لهم بعد إلا الإسلام أو السيف ولعل ذلك يحملهم على الاسلام، ولأن المسلمين لو قاتلوهم عقيب إظهار النقض فربما نسبوا إلى الخيانة فأمهلوا سداً لباب الظن وإظهاراً لقوة شوكتهم وعدم اكتراثهم بهم وباستعدادهم، وللمبالغة في ذلك اختيرت صيغة الأمر دون فلكم أن تسيحوا، والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما يؤذن به البراءة المذكورة من الحرب على أن الأول مترتب على نفسه للثاني بكلا متعلقيه على عنوان كونه من الله العزيز جل شأنه، كأنه قيل: هذه براءة موجبة لقتالكم فاسعوا في تحصيل ما ينجيكم وإعداد ما يجديكم.

{ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم عند الزهري لأن الآية نزلت في الشهر الأول، وقيل: إنها وإن نزلت فيه إلا أن قراءتها على الكفار وتبليغها إليهم كان يوم الحج الأكبر فابتداء المدة عاشر ذي الحجة إلى انقضاء عشر شهر ربيع الآخر، وروي ذلك عن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقيل: ابتداء تلك المدة يوم النحر لعشر من ذي القعدة إلى انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسىء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض" وإلى ذلك ذهب الجبائي، واستصوب بعض الأفاضل الثاني وادعى أن الأكثر عليه، روي من عدة أخبار متداخلة بعضها في «الصحيحين» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد النبـي صلى الله عليه وسلم فدخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:

لاهمَّ إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا وادعو عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا أن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي من كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحداً وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعا وسجدا

فقال عليه الصلاة والسلام: "لا نصرت إن لم أنصرك" ثم تجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث عليه الصلاة والسلام تلك السنة أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميراً على الناس ليقيم لهم الحج وكتب له سننه ثم بعث بعده علياً كرم الله تعالى وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على أهل الموسم صدر براءة فلما دناه علي كرم الله تعالى وجهه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي كرم الله تعالى وجهه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول الله تعالى إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من السورة ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، واختلفت الروايات في أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هل كان مأموراً أو لا بالقراءة أم لا والأكثر على أنه كان مأموراً وأن علياً كرم الله تعالى وجهه لما لحقه رضي الله تعالى عنه أخذ منه ما أمر بقراءته، وجاء في رواية ابن حبان وابن مردويه عن أبـي سعيد الخدري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين أخذ منه ذلك أتى النبـي صلى الله عليه وسلم وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزل فيه شيء فلما أتاه قال: مالي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي وصاحبـي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني.

/ وجاء من رواية أحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وغيرهم عن أنس قال: "بعث النبـي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبـي بكر رضي الله تعالى عنه ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا علياً كرم الله تعالى وجهه فأعطاه إياه" وهذا ظاهر في أن علياً لم يأخذ ذلك من أبـي بكر في الطريق وأكثر الروايات على خلافه، وجاء في بعضها ما هو ظاهر في عدم عزل أبـي بكر رضي الله تعالى عنه عن الأمر بل ضم إليه علي كرم الله تعالى وجهه. فقد أخرج الترمذي وحسنه والبيهقي في «الدلائل» وابن أبـي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه علياً وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فحجا فقام علي رضي الله تعالى عنه في أيام التشريق فنادى أن الله برىء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي كرم الله تعالى وجهه ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فنادى بها" وأيا ما كان ليس في شيء من الروايات ما يدل على أن علياً رضي الله تعالى عنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ عني غيري أو رجل مني سواء كان بوحي أم لا" جار على عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب لتنقطع الحجة بالكلية، فالتبليغ المنفي ليس عاماً كما يرشد إلى ذلك حديث أحمد والترمذي.

وكيف يمكن إرادة العموم وقد بلغ عنه صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحكام الشرعية في حياته وبعد وفاته كثير ممن لم يكن من أقاربه صلى الله عليه وسلم كعلي كرم الله تعالى وجهه ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإنه في تلك السنة حج بالناس وعلمهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الحج وما يلزم فيه وهو أحد الأمور الخمسة التي بني الإسلام عليها، على أن من أنصف من نفسه علم أن في نصب أبـي بكر رضي الله تعالى عنه لإقامة مثل هذا الركن العظيم من الدين على ما يشعر به قوله سبحانه: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97] الآية إشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة شعائر دينه لا سيما وقد أيد ذلك بإقامته مقامه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس في آخر أمره عليه الصلاة والسلام وهي العماد الأعظم والركن الأقوم لدينه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس، والقول بأنه رضي الله تعالى عنه عزل في المسألتين كما يزعمه بعض الشيعة لا أصل له وعلى المدعي البيان ودونه الشم الراسيات. وبالجملة دلالة «لا ينبغي» الخ على الخلافة مما لا ينبغي القول بها، وقصارى ما في الخبر الدلالة على فضل الأمير كرم الله تعالى وجهه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمن لا ينكر ذلك لكنه بمعزل عن اقتضائه التقدم بالخلافة على الصديق رضي الله تعالى عنه.

وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبـي بكر أميراً للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل وهي أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الإسراء وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة، ولما كان علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا كعينين فوارتين يفور من إحداهما صفة الجمال ومن الأخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان أنموذجا للحشر ومورداً للمسلم والكافر انتهى. ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبـي صلى الله عليه وسلم. / وجعل المدة أربعة أشهر قيل لأنها ثلث السنة والثلث كثير، ونصب العدد على الظرفية لسيحوا أي فسيحوا في أقطار الأرض في أربعة أشهر.

{ وَٱعْلَمُوا أَنَّكُمْ } لسياحتكم تلك { غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } لا تفوتونه سبحانه بالهرب والتحصن { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِى ٱلْكَـٰفِرِينَ } في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب المهين، وأظهر الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل أمر الإخزاء وهو الإذلال بما فيه فضيحة وعار، والمراد من الكافرين إما المشركون المخاطبون فيما تقدم والعدول عن مخزيكم إلى ذلك لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالاشراك وللاشعار بأن علة الإخزاء هي كفرهم وإما الجنس الشامل لهم ولغيرهم ويدخل فيه المخاطبون دخولاً أولياً.