{ يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } عود إلى ترغيب المؤمنين وحثهم على المقاتلة بعد ذكر طرف من فضائح أعدائهم { مَا لَكُمْ } استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ { إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي اخرجوا للجهاد، وأصل النفر على ما قيل الخروج / لأمر أوجب ذلك { ٱثَّاقَلْتُمْ } أي تباطأتم ولم تسرعوا وأصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش فأدغمت التاء في الثاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن ونظيره قول الشاعر:
تؤتى الضجيع إذا ما اشتاقها خفرا عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
وبه تتعلق { إِذَا } والجملة في موضع الحال، والفعل ماض لفظاً مضارع معنى أي مالكم متثاقلين حين قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم انفروا، وجوز أن يكون العامل في { إِذَا } الاستقرار المقدر في { لَكُمْ } أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك أي أي شيء حاصل أو حصل لكم أو ما تصنعون حين قيل لكم انفروا، وقرىء { ٱثَّاقَلْتُمْ } بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت في الدرج، وعلى هذه القراءة لا يصح تعلق { إِذَا } بهذا الفعل لأن الاستفهام له الصدارة فلا يتقدم معموله عليه، ولعل من يقول يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره يجوز ذلك، وقوله سبحانه: { إِلَى ٱلأَرْضِ } متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ولولاه لم يعد بإلى، أي أثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه المستتبعة للراحة الخالدة والحياة الباقية أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم والأول أبلغ في الإنكار والتوبيخ ورجح الثاني بأنه أبعد عن توهم شائبة التكرار في الآية، وكان هذا التثاقل في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف أقام بالمدينة قليلاً ثم استنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليه الشخوص لذلك. وذكر ابن هشام أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان قلما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه عليه الصلاة والسلام بينها للناس ليتأهبوا لذلك أهبته. { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وغرورها { مِنَ ٱلآخِرَةِ } أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي فما فوائدها ومقاصدها أو فما التمتع بها وبلذائذها { فِي ٱلآخِرَةِ } أي في جنب الآخرة { إِلاَّ قَلِيلٌ } مستحقر لا يعبأ به، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، و { فِي } هذه تسمى القياسية لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به، وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعي الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها. وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المسور قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله
"ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم ترجع" . وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: أترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء" ولا أرى الاستدلال على رداءة الدنيا إلا استدلالاً في مقام الضرورة. نعم هي نعمت الدار لمن تزود منها لآخرته.