التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ
١٧
-البلد

روح المعاني

{ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } فإن عطف على المنفي أعني { ٱقتَحَمَ } [البلد: 11] فكأنه قيل فلا اقتحم ولا آمن ولا يلزم منه كون الإيمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءاً أشرف خص بالذكر عطفاً فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك / مفسد للمعنى ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه وقيل إن (لا) للدعاء والكلام دعاء على ذلك الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير وقيل (لا) مخفف ألا للتحضيض كهلا فكأنه قيل فهلا اقتحم أو الاستفهام محذوف والتقدير أفلا أقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبـي مسلم وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبـي ربيعة قوله:

ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد الرمل والحصى والتراب

وقولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام ليس بشيء لظهور (كان) تحت النفي واتصال الكلام عليه قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكن لتحقق الوقوع عبر بالماضي ونقل الطيبـي عن أبـي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها راداً على الزجاج في زعمه ذلك وقال هي كلم والتكرر في نحو { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } [القيامة: 31] لا يدل على الوجوب كما في { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [الفرقان: 67] وعلى عدم التكرر جاء قول أمية السابق:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما

والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم.

وقرأ ابن كثير والنحويان (فَكَّ) فعلاً ماضياً (رقبةً) بالنصب (أو أطعم) فعلاً ماضياً أيضاً وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من (اقتحم) وما بينهما اعتراض ومعناه أنك لم تدر كنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل. وقرأ أبو رجاء كذلك إلا أنه قرأ (ذا مسغبة) بالألف على أن (ذا) منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنساناً ذا مسغبة ويكون (يتيما(ً بدلاً منه أو صفة له وقرأ هو أيضاً والحسن (أو إطعام في يوم ذا) بالألف أيضاً على أنه مفعول به للمصدر وقرأ بعض التابعين (فك رقبة) بالإضافة (أو أطعم) فعلاً ماضياً وهو معطوف على المصدر لتأويله به والتراخي المفهوم من (ثم) في قوله تعالى: { ثُمَّ كَانَ } الخ رتبـي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سبباً للنجاة وشكراً بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه.

وقوله سبحانه: { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } عطف على { ءامَنُواْ } أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به والصبر عن المعاصي وعلى المحن التي يبتلى بها الإنسان { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } أي بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف وذكر أن { تَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وتواصوا بالمرحمة إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين: الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق وخلق مع الخلق.