التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٦٣
لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٤
-يونس

التحرير والتنوير

استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قوله: { إلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك } [يونس: 61] الآية، وبتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبي والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعداً لا يقبل التغيير ولا التخلف تطميناً لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه { لا تَبديل لكلمات الله }.

وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قوله: { ألا إنهم هم المفسدون } في سورة [البقرة: 12]، ولذلك أكدت الجملة بـ{ إنَّ } بعد أداة التنبيه.

وفي التعبير بـ { أولياء الله } دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله: { ولا تعملون من عمل } [يونس: 61] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم.

وجملة: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } خبر { إن }.

والخوف: توقع حصول المكروه للمتوقِّع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله. فيقال: خاف الشيْء، قال تعالى: { فلا تخافوهم وخَافون } [آل عمران: 175]. وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع: خاف عليه، كقوله تعالى: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الشعراء: 135].

وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن (لا) إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصاً وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهراً مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحاً لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم (لا) وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديثِ أم زرع «زوجي كلَيْلِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح.

فمعنى { لا خوف عليهم } أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمنٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليماً من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى: { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [التوبة: 25، 26]، وقال لموسى: { لا تَخاف دَرَكا ولا تخشى } [طه: 77]، وقال: { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون }. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض" . ثم خرج وهو يقول: { سيهزم الجمع ويولون الدبر }[القمر: 45].

ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله: { ولا هم يحزنون } فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير { أولياء الله } مع الابتداء به، وإيراد الفعل بَعده مسنداً مفيداً تقوي الحكم، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم "وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون" فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله: { ولا هم يحزنون } لأن جملة: { هم يحزنون } يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصاً منه.

فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم. ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم. وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله: { { فأوجس في نفسه خيفة موسى } [طه: 67]. وقد علمت ما يُغني عن هذا التأويل، وهو يبعد عن مفاد قوله: { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }.

والولي: الموالي، أي المحالف والناصر. وكلها ترجع إلى معنى الوَلْي (بسكون اللام)، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي. وتقدم في قوله تعالى: { قل أغير الله أتخذ ولياً } في سورة [الأنعام: 14]. وهو قرب من الجانبين، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة. وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض، أو يجعل جملة: { لا خوف عليهم } خبر { إنّ } ويجعل اسم الموصول خبرَ مبتدأ محذوف حذفاً جارياً على الاستعمال، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه. وأياً ما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر:

الألْمعِي الذي يظن بك الظَّنَّكأنْ قد رأى وقد سَمعا

ودل قوله: { وكانوا يتقون } على أن التقوى ملازمة لهم أخذاً من صيغة { كانوا } وأنها متجددة منهم أخذاً من صيغة المضارع في قوله: { يتقون }. وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خَلَتْ في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يُعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعاً وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: من عادَى لي ولياً فقد آذنته بحرب" .

وإشارة الآية إلى تولي الله إياهم بالكرامة بقوله: { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }. وتعريف { البشرى } تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة.

و{ في الحياة الدنيا وفي الآخرة } حال من { البشرى }. والمعنى: أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها: في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم، كقوله: { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } [البقرة: 25].

وروى الترمذي "عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: { لهم البشرى في الحياة الدنيا } فقال: ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أوْ ترى له" قال الترمذي: وليس فيه عطاء بن يسار أي ليس في الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو المعروف في رواية أبي صالح إلى أبي الدرداء، وعليه فالحديث منقطع غير متصل السند. وقد رواه الترمذي بسندين آخرين فيهما عطاء بن يسار عن رجل من أهل مِصر عن أبي الدرداء وذلك سند فيه مجهول، فحالة إسناد هذا الخبر مضطربة لظهور أن عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء.

ومحمل هذا الخبر أن الرؤيا الصالحة من جملة البشرى في الحياة الدنيا لأنها تؤذن صاحبها بخير مستقبل يحصل في الدنيا أحرى الآخرة، أو كأن السائل سأل عن بشرى الحياة فأما بشرى الآخرة فكانت معروفة بقوله: { يبشرهم ربهم برحمة منه } [التوبة: 21] الآية ونحوها من الآيات.

وفي «الموطأ» عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول في هذه الآية { لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال: هي الرؤيا الصالحة يَراها الرجل أوْ تُرى له. ومن البشرى الوعد بأن لهم عاقبة النصر على الأعداء، وتمكينُهم من السلطان في الدنيا، وأن لهم النعيم الخالد في الآخرة. ومقابلة الحَزَن بالبشرى من محسنات الطباق.

وجملة: { لا تبديل لكلمات الله } مبينة لمعنى تأكيد الوعد الذي تضمنه قوله: { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }، تذكيراً لهم بأن ما وعدهم الله به من البشائر مثل النصر وحسن العاقبة أمر ثابت لا يتخلف لأنه من كلمات الله، وقد نفي التبديل بصيغة التبرئة الدالة على انتفاء جنس التبديل.

والتبديل: التغيير والإبطال، لأن إبطال الشيء يستلزم إيجاد نقيضه.

و{ كلمات الله } الأقوال التي أوحى بها إلى الرسول في الوعد المشار إليه، ويؤخذ من عموم { كلمات الله } وعموم نفي التبديل أن كل ما هو تبديل منفي من أصله.

رُوي أن الحجاج خطب فذكر عبد الله بن الزبير فقال: إنه قد بَدَّل كتاب الله. وكان ابن عمر حاضراً فقال له ابن عمر: لا تطيق ذلك أنت ولا ابنُ الزبير: { لا تبديل لكلمات الله }.

وجملة { ذلك هو الفَوْز العظيم } مؤكدة لجملة { لهم البشرى } ومقررة لمضمونها فلذلك فُصلت.

والإشارة بذلك إلى المذكور من مضمون الجمل الثلاث المتقدمة، واختيار اسم الإشارة لأنه أجمع لما ذُكر، وفيه كمال تمييز له لزيادة تقرير معناه. وذكرُ ضمير الفصل بعد اسم الإشارة لزيادة التأكيد ولإفادة القصر، أي هو الفوز العظيم لا غيرُه مما يتقلب فيه المشركون في الحياة الدنيا من رزق ومنَعَة وقوة، لأن ذلك لا يعد فوزاً إذا عاقبته المذلة والإهانة في الدنيا وبعدَه العذاب الخالد في الآخرة، كما أشار إليه قوله تعالى: { لا يغرَّنَّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } [آل عمران: 196 - 197].