التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
٦
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
٧
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
٨
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
٩
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ
١٠
نَارٌ حَامِيَةٌ
١١
-القارعة

التحرير والتنوير

تفصيل لما في قوله: { { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } [القارعة: 4] من إجمال حال الناس حينئذ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيله بحالين: حال حَسَن وحال فظيع.

وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضى من الله تعالى لكثرة حسناته، لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتنائها، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوهِ، وبضد ذلك يقولون: فلان لا يقام له وزن، قال تعالى: { { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [الكهف: 105]، وقال النابغة:

وميزانه في سُورة المجد مَاتِع

أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في الآية بذكر ما يُثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح.

وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيراً في القرآن، قال ابن العربي في «العواصم»: لم يرد حديث صحيح في الميزان. والمقصودُ عدم فوات شيء من الأعمال، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك.

والعيشة: اسم مصدر العَيش كالخِيفة اسم للخوف. أي في حياة.

ووصف الحياة بــــ { راضية } مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى.

وقوله: { فأمُّه هاوية } إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها. وهاوية: هالكة، والكلام تمثيل لحال من خفّت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سروراً بسروره وأشد حزناً بما يحزنه. صلّى أعرابي وراءَ إمام فقرأ الإِمام: { { واتخذ اللَّه إبراهيم خليلاً } [النساء: 125] فقال الأعرابي: «لقد قَرَّت عينُ أمِّ إبراهيم» ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همَّام الشيباني:

يا لهفَ زيّابة للحارث الصابح فالغَانم فالآيب

ويقولون في الشر: هَوتْ أمه، أي أصابه ما تَهلك به أمه، وهذا كقولهم: ثكلته أمه، في الدعاء، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب بن سعد الغَنوي في رثاء أخيه أبي المِغوار:

هَوَتْ أمُّه ما يَبعث الصبحُ غادياًوماذا يَرُدُّ الليلُ حينَ يؤوب

أي ماذا يبعث الصبحُ منه غادياً وما يردُّ الليلُ حينَ يؤوب غانماً، وحذف منه في الموضعين اعتماداً على قرينة رفع الصبح والليل وذِكر: غادياً ويؤوب و(مِن) المقدَّرة تجريدية فالكلام على التجريد مثل: لقيت منه أسداً.

فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحالة المشبهة بحال الهلاك، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب، كما تضرب الأمثال السائرة.

ويجوز أن يكون «أمه» مستعاراً لمقره ومآله لأنه يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه.

و{ هَاوية } المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك، يقال: سقط في الهاوية.

وأريد بها جهنم، وقيل: هي اسم لجهنم، أي فمأواه جهنم.

ويجوز أن يكون «أمه» على حذف مضاف، أي أم رأسه، وهي أعلى الدماغ، و{ هاوية } ساقطة من قولهم سقط على أم رأسه، أي هلك.

{ وما أدراك ما هيه }: تهويل كما تقدم آنفاً.

وضمير { هِيه } عائد إلى { هاوية }، فعلى الوجه الأول يكون في الضمير استخدام، إذ معاد الضمير وصف هالكة، والمرادُ منه اسم جهنم كما في قول معاوية بن مالك الملقَّب معوِّذَ الحُكماء:

إذا نزل السماءُ بأرض قومرَعْينَاه وإنْ كانوا غضاباً

وعلى الوجه الثاني يعود الضمير إلى { هاوية } وفسرت بأنها قعر جهنم.

وعلى الوجه الثالث يكون في { هِيه } استخدام أيضاً كالوجه الأول.

والهاء التي لحقت ياء (هِي) هاءُ السكت، وهي هاء تُجلب لأجل تخفيف اللفظ عند الوقف عليه، فمنه تخفيف واجب تجلب له هاء السكت لزوماً، وبعضه حسن، وليس بلازم وذلك في كل اسم أو حرف بآخره حركة بناء دائمة مثل: هو، وهي، وكيف، وثم، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: { { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كِتابيه } في سورة الحاقة (19).

وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل، وقرأ حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل.

وجملة: { نار حامية } بيان لجملة: { وما أدراك ما هيه }، والمعنى: هي نار حامية. وهذا من حذف المسند إليه الذي اتُّبع في حذفه استعمال أهل اللغة.

ووصف { نار } بــــ { حامية } من قبيل التوكيد اللفظي لأن النار لا تخلو عن الحَمْي فوصفها به وصف بما هوَ من معنى لفظ { نار } فكانَ كذكر المرادف كقوله تعالى: { { نارُ اللَّه الموقدة } [الهمزة: 6].