التفاسير

< >
عرض

أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ
١
حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ
٢
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٤
-التكاثر

التحرير والتنوير

{ ألهاكم } أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغالُ به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمرٍ مهم.

و{ التكاثر }: تفاعل في الكثْر أي التباري في الإِكثار من شيء مرغوب في كثرته. فمنه تكاثر في الأموال، ومنه تكاثر في العَدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم. وقد فسرت الآية بهما قال تعالى: { { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [سبأ: 35].

وقال الأعشى:

ولستَ بالأكْثر منهم حَصًىوإنما العِزة للكَاثر

روى مسلم "عن عبد الله بن الشِّخِّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: { ألهاكم التكاثر } قال: يقول ابنُ آدم مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنَيْت أو لَبست فَأَبْلَيْت أو تصدقت فأمضَيْت" فهذا جارٍ مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمله الآية.

والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله: { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } وقوله: { { لترون الجحيم } [التكاثر: 6] إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خُلق المسلمين يومئذ.

والمراد بالخطاب: سادتُهم وأهلُ الثراء منهم لقوله: { { ثم لتسئلُنَّ يومئذٍ عن النعيم } [التكاثر: 8]، ولأن سادة المشركين هم الذين آثاروا ما هم فيه من النعمة على التهمّم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدَّوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإِصغاء له. فلم يُذكَر المُلْهَى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإِنصاف بتصديقه. وهذا الإِلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي.

وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يُلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير، قال تعالى يخاطب المؤمنين: { { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [الحديد: 20] الآية.

وقوله: { حتى زرتم المقابر } غاية، فيحتمل أن يكون غاية لفعل { ألهاكم } كما في قوله تعالى: { { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } [طه: 91]، أي دَام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمرّ بكم طولَ حياتكم، فالغاية مستعملة في الإِحاطة بأزمان المغيَّا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.

ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبورَ المقابر. وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولاً غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضاً بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها.

والتعبير بالفعل الماضي في { زُرتم } لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل: { { أتى أمرُ اللَّه } [النحل: 1].

ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر بهِ الدالِّ عليه التكاثُر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها. وهذا يجري على ما رَوَى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم، كما تقدم في سبب نزولها آنفاً، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي، أي زرتم المقابر لتَعُدُّوا القبور، والعرب يكنّون بالقبر عن صاحبه قال النابغة:

لَئِنْ كان للقَبْرين قَبْرٍ بجِلَّقٍوقَبر بصيداءَ الذي عند حَارِب

وقال عصام بن عُبيد الزّمَّاني، أو همّام الرَّقَاشي:

لو عُدَّ قَبْرٌ وقبرٌ كُنتُ أقربَهمقبراً وأبْعَدَهم من مَنزِل الذَّام

أي كنتُ أقربهم منكَ قبراً، أي صاحبَ قبر.

و{ المقابر }: جمع مقبَرة بفتح الموحدة وبضمها. والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة.

والتوبيخ الذي استُعمل فيه الخبر أُتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت، وبحرف الزجر والإِبطال بقوله: { كلا سوف تعلمون } فأفاد { كلا } زجراً وإبطالاً لإِنهاء التكاثر.

و{ سوف } لتحقيق حصول العلم. وحدف مفعول { تعلمون } لظهور أن المراد: تعلمون سوء مَغَبَّة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإِسلام.

وأكد الزجر والوعيد بقوله: { ثم كلا سوف تعلمون } فعطف عطفاً لفظيّاً بحرف التراخي أيضاً للإِشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف { ثم } اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.

فجملة: { ثم كلا سوف تعلمون } توكيد لفظي لجملة: { كلا سوف تعلمون } وعن ابن عباس: { كلا سوف تعلمون } ما ينزل بكم من عذاب في القبر: { ثم كلا سوف تعلمون } عند البعث أن ما وعدتم به صِدق، أي تُجعل كلَّ جملة مراداً بها تهديد بشيء خاص. وهذا من مُسْتَتْبَعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكلِّ من فِعلي { تعلمون }، وليس تكرير الجملة بمقتضٍ ذلك في أصل الكلام. ومفاد التكرير حاصل على كل حال.