التفاسير

< >
عرض

ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ
١
ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ
٢
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
٣
كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي ٱلْحُطَمَةِ
٤
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ
٥
نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ
٦
ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ
٧
-الهمزة

التحرير والتنوير

{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ }.

كلمة (ويل له) دُعاء على المجرور اسمُه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى: { { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللَّه } في سورة البقرة (79).

والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب.

وكلمة (كُلّ) تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدناً لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة.

وهُمَزَة ولُمزة: بوزن فُعَلَة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه. وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم: ضُحَكَة لكثير الضحك، ولُعَنَة لكثير اللعن، وأصلها: أن صيغة فُعَل بضم ففتح ترد للمبالغة في فَاعل كما صرح به الرضيّ في شرح الكافية يقال: رجل حُطَم إذا كان قليل الرحمة للماشية، أي والدواب.

ومنه قولهم: خُتع (بخاء معجمة ومثناة فوقية) وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف أُلحق به الهاء كما أُلحقت في: علاّمة ورحَّالة، فيقولون: رجل حُطمة وضُحكة ومنه هُمزة، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في «الكشاف»، وقد قالوا: إن عُيَبَة مساوٍ لعيابة، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فُعَل وفُعَلَة نحو حُطم وحطمة بدون هاء وبهاء، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعلة دون فُعل نحو رجل ضُحَكة، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعَل دون فُعَلَة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غُدَر ويا فُسق ويا خُبَث ويا لُكع.

قال المرادي في «شرح التسهيل» قال: بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها، وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء اهــــ. قلت: وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في «المقامة السابعة والثلاثين»: «صَهْ يا عُقَق، يا من هو الشّجَا والشَرَق».

وهُمزة: وصف مشتق من الهَمز. وهو أن يعيب أحدٌ أحداً بالإِشارة بالعين أو بالشِّدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه، ويقال: هَامز وهمَّاز، وصيغة فُعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف.

ووقع { هُمزة } وصفاً لمحذوف تقديره: ويل لكل شَخْص هُمزة، فلما حذف موصُوفه صار الوصف قائماً مقامه فأضيف إليه (كُلّ).

ولمزة: وصف مشتق من اللمز وهو المواجعة بالعيب، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في هُمزة.

وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ، ومَن عامَلَ من المسلمين أحداً من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد.

فمن اتصف بشيء من هذا الخُلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك. وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يُعد من الكبائر إلا ضربُ المسلم. وسبُّ الصحابة رضي الله عنهم وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدناً فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر.

وأتبع { الذي جمع مالاً وعدده } لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال. وإنما ينشأ ذلك عن بخل النفس والتخوف من الفقر، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عُرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد.

واسم الموصول من قوله: { الذي جمع مالاً } نعت آخر ولم يعطف { الذي } بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى: { { ولا تطع كل حلاّف مهين هماز مشاء بنميم منَّاع للخير مُعتدٍ أثيم عتل بعد ذلك زنيم } [القلم: 10 ـــ 13].

والمال: مكاسب الإِنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة. وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو الكثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإِبل قال زهير:

فكُلاّ أراهم أصبحوا يعقلونهصحيحاتتِ مال طالعات بمخرم

يريد إبل الدية ولذلك قال: طالعات بمخرم.

وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى مَاله، أي إلى جناته، وفي كلام أبي هريرة: «وإن أخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم» وقال أبو طلحة: «وإن أحب أموالي إليَّ بئرُ حاء».

"وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: أينَ المال الذي عند أم الفضل" .

وتقدم في قوله تعالى: { { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } سورة آل عمران (92).

ومعنى: { عدّدهُ } أكْثر من عدِّه، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في (عدَّ) ومعاودته.

وقرأ الجمهور { جمع مالاً } بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلفٌ بتشديد الميم مزاوجاً لقوله: { عدَّده } وهو مبالغة في { جَمَع }. وعلى قراءة الجمهور دل تضعيف { عدده } على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه.

ويجوز أن يكون { عَدده } بمعنى أكثر إعداده، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى: { { والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث } [آل عمران: 14].

وجملة: { يحسب أن ماله أخلده } يجوز أن تكون حالاً من هُمَزة فيكون مستعملاً في التَّهكم عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يُوجد من يَحْسِب أن ماله يُخلده، فيكون الكلام من قبيل التمثيل، أو تكون الحال مراداً بها التشبيه وهو تشبيه بليغ.

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والخبر مستعملاً في الإِنكار، أو على تقدير همزة استفهام محذوفة مستعملاً في التهكم أو التعجيب.

وجيء بصيغة المضي في { أخلده } لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لتحققه عنده، وذلك زيادة في التهكم به بأنه موقن بأن ماله يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت.

والهَمزة في { أخلده } للتعدية، أي جعله خالداً.

وقرأ الجمهور: { يحسِب } بكسر السين. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر بفتح السين وهما لغتان.

ومعنى الآية: أن الذين جمعوا المال يشبه حالهم حال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين لأن الخلود في الدنيا أقصى متمناهم إذ لا يؤمنون بحياة أخرى خالدة.

و{ كلاّ } إبطال لأن يكون المال مُخلِّداً لهم. وزجر عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلتهم في حال من يحسب أن المال يخلد صاحبه، أو إبطال للحرص في جمع المال جمعاً يمنع به حقوق الله في المال من نفقات وزكاة.

{ لَيُنبَذَنَّ فِى ٱلْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ * نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ }.

استئناف بياني ناشىء عن ما تضمنته جملة: { يحسب أن ماله أخلده } من التهكم والإِنكار، وما أفاده حرف الزجر من معنى التوعد.

والمعنى: ليَهْلِكَنَّ فَليُنْبَذَنَّ في الحُطمة.

واللام جواب قسم محذوف. والضمير عائد إلى الهمزة.

والنبذ: الإِلقاء والطرح، وأكثر استعماله في إلقاء ما يكره. قال صاحب «الكشاف» في قوله تعالى: { { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليَمّ } [القصص: 40] شبههم استحقاراً لهم بحَصَيات أخذَهُن آخذٌ بكفه فطرحهن اهــــ.

والحُطمة: صفة بوزن فُعَلَة، مثل ما تقدم في الهُمزة، أي لينبذن في شيء يحطمه، أي يكسره ويدقه.

والظاهر أن اللام لتعريف العهد لأنه اعتبر الوصف علماً بالغلبة على شيء يحطم وأريد بذلك جهنم، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن. وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار.

فجملة: { وما أدراك ما الحطمة } في موضع الحال من قوله: { الحطمة } والرابط إعادة لفظ الحطمة، وذلك إظهار في مقام الإِضمار للتهويل كقوله: { { الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة } [الحاقة: 1 ـــ 3] وما فيها من الاستفهام، وفعل الدراية يفيد تهويل الحطمة، وقد تقدم { ما أدراك } غير مرة منها عند قوله: { { وما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار (17).

وجملة: { نار الله الموقدة } جواب عن جملة { وما أدراك ما الحطمة } مفيد مجموعهما بيان الحطمة ما هي، وموقع الجملة موقع الاستئناف البياني، والتقدير هي، أي الحطمة نار الله، فحُذف المبتدأ من الجملة جرياً على طريقة استعمال أمثاله من كل إخبار عن شيء بعد تقدم حديث عنه وأوصاف له، وقد تقدم عند قوله تعالى: { { صُمّ بكمٌ عمي } في سورة البقرة (18).

وإضافة { نار } إلى اسم الجلالة للترويع بها بأنها نار خلقها القادر على خلق الأمور العظيمة.

ووصف { نار } بــــ«موقدة»، وهو اسم مفعول من: أوقد النار، إذا أشعلها وألهبَها. والتوقد: ابتداء التهاب النار فإذا صارت جمراً فقد خفّ لهبها، أو زال، فوصف { نار } بــــ «موقدة» يفيد أنها لا تزال تلتهب ولا يزول لهيبها. وهذا كما وُصفت نار الأخدود بذات الوَقود (بفتح الواو) في سورة البروج، أي النار التي يُجدد اتقادها بوقود وَهو الحَطب الذي يُلقَى في النار لتتقد فليس الوصف بالموقَدة هنا تأكيداً.

ووصفت { نار اللَّه } وصفاً ثانياً بــــ { التي تطّلع على الأفئدة }.

والاطلاع يجوز أن يكون بمعنى الإِتيان مبالغة في طلع، أي الإِتيان السريع بقوة واستيلاء، فالمعنى: التي تنفذ إلى الأفئدة فتحرقها في وقت حرق ظاهر الجسد.

وأن يكون بمعنى الكشف والمشاهدة قال تعالى: { { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } [الصافات: 55] فيفيد أن النار تحرق الأفئدة إحراق العالِم بما تحتوي عليه الأفئدة من الكفر فتصيب كل فؤاد بما هو كِفاؤه من شدة الحرق على حسب مبلغ سوء اعتقاده، وذلك بتقدير من الله بين شدة النار وقابلية المتأثر بها لا يعلمه إلا مُقدِّره.