التفاسير

< >
عرض

أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ
١
فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ
٢
وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
٣
-الماعون

التحرير والتنوير

الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع. فالتعجيب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دَعّ اليتيم وعدم الحضّ على طعام المسكين، وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوِّق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثاراً للتعجب فيترقب السامع ماذا يَرِد بعده وهو قوله: { فذلك الذي يدع اليتيم }.

وفي إقحام اسم الإِشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كَمَالَ تَمكُّن.

وأصل ظاهر الكلام أن يقال: أرأيت الذي يكذب بالدين فَيدُع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين.

والإِشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإِشارة لتمييزه أكملَ تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه.

والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحداً مثل قوله تعالى: { { والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً } [الصافات: 1 ـــ 3].

فمعنى الآية عطفُ صفتي: دَع اليتيم، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين.

وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنَافياً لما تقتضيه الحكمة من التكليف، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء.

وجيء في { يكذب }، و{ يدُعّ }، و{ يَحُضّ } بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه.

وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء.

والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد.

وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من { أرأيت } ألفاً. وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفاً وهو الذي قرأنا به في تونس، وهكذا في فعل (رأى) كلما وقع بعد همزة استفهام، وذلك فرار من تحقيق الهمزتين، وقرأه الجمهور بتحقيقهما.

وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل. واسم الموصول وصلتُه مراد بهما جنس من اتصف بذلك. وأكثر المفسرين درجوا على ذلك.

وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل: في عمرو بن عائذ المخزومي، وقيل: في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان يَنحر كل أسبوع جَزوراً فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا. وقيل: في أبي جهل: كان وصياً على يتيم فأتاه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه دفعاً شنيعاً.

والذين جعلوا السورة مدنية قالوا: نزلت في منافق لم يسموه، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصِّـصاً حكمَها بمن نزلتْ بسببه.

ومعنى { يدع } يدفع بعنف وقهر، قال تعالى: { { يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً } [الطور: 13].

والحض: الحث، وهو أن تطلب غيرك فعلاً بتأكيد.

والطعام: اسم الإِطعام، وهو اسم مصدر مضاف إلى مفعوله إضافة لفظية. ويجوز أن يكون الطعام مراداً به ما يطعم كما في قوله تعالى: { { فانظر إلى طعامك وشرابك } [البقرة: 259] فتكون إضافة طعام إلى المسكين معنوية على معنى اللام، أي الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور بــــ (على) تقديره: على إعطاء طعام المسكين.

وكنى بنفي الحضّ عن نفي الإِطعام لأن الذي يشحّ بالحض على الإِطعام هو بالإِطعام أشح كما تقدم في قوله: { { ولا تحاضون على طعام المسكين } في سورة الفجر (18) وقوله: { { ولا يحض على طعام المسكين } في سورة الحاقة (34).

والمسكين: الفقير، ويطلق على الشديد الفقرِ، وقد تقدم عند قوله تعالى: { { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } في سورة التوبة (60).