التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ
١
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ
٢
-الكوثر

التحرير والتنوير

افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر. والإِشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإِشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في { { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر: 1]. والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق.

وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم.

و{ الكوثر }: اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه، ونظيره: جَوْهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها.

ويوصفُ الرجل صاحب الخير الكثير بكَوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص: الأسدي

وصاحب ملحوب فُجعنا بفقدهوعند الرّداع بيتُ آخر كوثر

(ملحوب والرداع) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان:

وأنتَ كثيرٌ يا ابنَ مروان طيبٌوكان أبوك ابنُ العقايل كَوْثرا

وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفاً.

وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوءة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإِسلام، وعن أبي بكر بن عَيَّاش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره.

وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالاً لقولهم.

وقوله: { فصل لربك } اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته.

وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء: إنه أبتر، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى: { { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } [العلق: 9، 10] لأنهم إنما نهَوْه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم، وكذلك النحر لله.

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله: { فصل لربك } دون: فصلِّ لنا، لما في لفظ الرب من الإِيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلاً عن فرط إنعامه.

وإضافة (رب) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه، وفيه تعريض بأنه يربُّه ويرأف به.

ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى: { { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } في سورة الحجر (97، 98).

ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيراً كثيراً، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى: { { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [الفتح: 1] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب: أفتح هذا؟ قال: نعم.

وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير: أن قوله: { فصلّ لربك وانحر } أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية.

وأفادت اللام من قوله: { لربك } أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها.

وعطف { وانحر } على { فصلّ لربك } يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلاً لمتعلِّق { فصل لربك } لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى: { { أسمِع بهم وأبصر } [مريم: 38] أي وأبصر بهم، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرباناً للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناوياً بما تنحره أنه لله.

وإن كانت السورة مدنية، وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مراداً به الضحايا يومَ عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله: { فصلّ لربك } مراد به صلاة العيد، ورُوي ذلك عن مالكٍ في تفسير الآية وقال: لم يبلغني فيه شيء.

وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفاً. ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة. وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير «انحر» تجعله لفظاً غريباً.