التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ
١
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
٢
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٣
-الكافرون

التحرير والتنوير

افتتاحها بــــ { قلْ } للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جوابٍ عن سؤال منها: { { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لِلَّه } في سورة الجمعة (6). والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور: { { قل أوحي } [الجن: 1]، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص، والمعوّذتان، فالثلاث الأول لقول يبلِّغه، والمعوّذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه.

والنداء موجه إلى الأربعة الذين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } كما سيأتي.

وابتدىء خطابهم بالنداء لإِبلاغهم، لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقى عليهم.

ونُودوا بوصف الكافرين تحقيراً لهم وتأييداً لوجه التبرؤ منهم وإيذاناً بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يَكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم. قال القرطبي: قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: يا أيها الكافرون، وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر.

فقوله: { لا أعبد ما تعبدون } إخبار عن نفسه بما يحصل منها.

والمعنى: لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقاً لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه (لا) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في «الكشاف»، وهو قول جمهور أهل العربية. ومن أجل ذلك كان حرف (لَن) مفيداً تأكيد النفي في المستقبل زيادة على مطلق النفي، ولذلك قال الخليل: أصل (لَن): لا أنْ، فلما أفادت (لا) وحدها نفي المستقبل كان تقدير (أنْ) بعد (لا) مفيداً تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا إن (لن) تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن (لا) كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل. وخالفهم ابن مالك كما في «مغني اللبيب»، وأبو حيان كما قال في هذه السورة، والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في «الروض الأنف».

ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة.

ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله: { ولا أنتم عابدون }، أي ما أنتم بمغيِّرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدِئوا هُم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى الله عليه وسلم سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ.

وهذا إخباره إياهم بأنه يعلم أنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوته نظير قوله تعالى: { { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [البقرة: 24] فإن أولئك النفر الأربعة لم يُسلم منهم أحد فماتوا على شركهم.

ومَا صدقُ { ما أعبد } هو الله تعالى وعبر بــــ { ما } الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص (مَن) بالعاقل، فلا مانع من إطلاق (ما) على العاقل إذا كان اللبس مأموناً. وقال السهيلي في «الروض الأنف»: إن (ما) الموصولة يؤتى بها لقصد الإِبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب: سبحان ما سَبَّح الرعد بحمده، وقوله تعالى: { { والسماء وما بناها } كما تقدم في سورة الشمس (5).