التفاسير

< >
عرض

وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ
٤
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ
٥
-المسد

التحرير والتنوير

أعقب ذم أبي لهب ووعيدهُ بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وتعينه عليه.

وامرأته: أي زوجُه، قال تعالى في قصة إبراهيم: { { وامرأته قائمة } [هود: 71] وفي قصة لوط: { { إلا امرأته كانت من الغابرين } [الأعراف: 83] وفي قصة نسوة يوسف: { { امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } [يوسف: 30].

وامرأة أبي لهب هي أم جَميل، واسمها أرْوَى بنتُ حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان ابن حرب، وقيل: اسمها العَوراء، فقيل هو وصف وأنها كانت عوراء، وقيل: اسمها، وذكر بعضهم: أن اسمها العَوَّاء بهمزة بعد الواو.

وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوككِ فتضعه في الليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليعقِر قدميه.

فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جُعل لامرأته وعيد مقتبَس لفظُه من فِعلها وهو حَمْل الحطب في الدنيا، فأُنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقَد به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سبباً لعذاب أعز الناس عليها.

فقوله: { وامرأته } عطف على الضمير المستتر في { { سيصلى } [المسد: 3] أي وتصلى امرأته ناراً.

وقوله: { حمالةُ الحطب } قرأه الجمهور برفع { حمّالةُ } على أنه صفة لامرأته فيَحتمل أنها صفتها في جهنم ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدّنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التوجيه والإِيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك.

وقرأه عاصم بنصب { حمالة } على الحال من { امرأته }. وفيه من التوجيه والإِيماء ما في قراءة الرفع.

وجملة: { في جيدها حبل من مسد } صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة، أي جعل لها حبل في عنقها تحمِل فيه الحطب في جهنم لإِسعار النار على زوجها جزاء مماثلاً لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها.

والجِيد: العُنق، وغلَب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فَقَلّ أن يذكر العُنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عُنُقاً موصوفاً بالحسن وقد جمعهما امرؤ القيس في قوله:

وجيدٍ كجِيد الرِئم ليس بفاحشإذا هي نَصَّتْه ولا بمُعَطَّل

قال السهيلي في «الروض»: «والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحَلي أو الحُسن فإنما حَسُن هنا ذِكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادَهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحَبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحَلي ذُكر الجيد معه، ألا ترى إلى قول الأعشى:

يومَ تبدي لنا قتيلةُ عن جيــــــــد أسيل تزينُه الأطواق

ولم يقل عن عنق، وقول الآخر:

وأحسن من عقد المليحة جيدُها

ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثاً من الكلام. ا هــــ.

قلت: وأما قول المعري:

الحَجْلُ للرِّجْل والتاجُ المُنيفُ لمافوقَ الحِجَاج وعِقْد الدرّ للعنق

فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماماً للمجانسة التي بين الحَجْل والرجل، والتاج والحجاج، وهو مقصود الشاعر.

والحبْل: ما يربط به الأشياء التي يراد اتصالُ بعضها ببعض وتقيدُ به الدابة والمسجون كيلا يبرح من المكان، وهو ضفير من الليف أو من سُيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتدٍ أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره على بعد يراد، وتربط به قلوع السفن وتشد به السفن في الأرض في الشواطىء، وتقدم في قوله تعالى: { { واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً } في سورة آل عمران (103) وقوله: { { إلا بحبل من اللَّه وحبل من الناس } في سورة آل عمران (112)، ويقال: حبله إذا ربطه.

والمسدّ: ليف من ليف اليمن شديد، والحِبال التي تفتل منه تكون قوية وصُلبة.

وقدم الخبر من قوله: { في جيدها } للاهتمام بوصف تلك الحالة الفظيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط به إذ قد كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء، وقد ماتت أم جميل على الشرك.