التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ
١
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
٢
-الفلق

التحرير والتنوير

الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبي صلى الله عليه وسلم ليتعوذ بها فإجابتُها مرجوة، إذ ليس هذا المقول مشتملاً على شيء يُكلف به أو يُعمل حتى يكون المراد: قل لهم كذا كما في قوله: { { قل هو الله أحد } [الإخلاص: 1]، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة.

وقد روي "عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقال: قِيل لي قُل فقلتُ لكم فقولوا" . يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كَلِمة { قُل }.

والخطاب بـ { قُل } للنبي صلى الله عليه وسلم وإذ قد كان قرآناً كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضاً كان يعوِّذ بهما الحَسَن والحُسَيْن كما ثبت في «الصحيح»، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنَيي الخطاب من توجُّهه إلى معيّن وهو الأصل، ومن إرادة كلّ من يصح خطابُه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن، فيكون من استعمال المشترك في معنييه.

واستعمال صيغة التكلم في فعل { أعوذ } يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل { قل } فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها.

وأما تعويذُ قارئها غيرَه بها كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين، وما رُوي عن عائشة قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقُل كنت أنفث عليه بهن وأمْسح بيدِ نفسه لبركتها" ، فذلك على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات لعجز أو صغر أو عدم حفظ.

والعَوْذ: اللجأ إلى شيء يقِي من يلجأُ إليه ما يخافه، يُقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ويقال: استعاذ، إذا سأل غيره أن يُعيذه قال تعالى: { { فاستعِذ باللَّه إنه سميع عليم } [الأعراف: 200]. وعاذ من كذا، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى: { { فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم } [النحل: 98].

و{ الفلق }: الصبح، وهو فَعَل بمعنى مفعول مثل الصَّمَد لأن الليل شبه بشَيء مغلق ينفلق عن الصبح، وحقيقة الفَلْق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل، وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى: { { وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } [النازعات: 29]، واستعارة السلخ له في قوله تعالى: { { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [يس: 37].

وربُّ الفلق: هو الله، لأنه الذي خلق أسبابَ ظهور الصبح، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شراً كثيراً يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذر السير، وعُسر النجدة، وبُعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إلٰه الشر.

والمعنى: أعوذ بفالق الصبح مَنجاةً من شرور الليل، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجى أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح، فوُصفَ الله بالصفة التي فيها تمهيدٌ للإِجابة.