التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
١١
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
١٢
-يوسف

التحرير والتنوير

استئناف بيانيّ لأنّ سوق القصّة يستدعي تساؤل السامع عمّا جَرَى بعد إشارة أخيهم عليهم، وهل رجعوا عمّا بيتوا وصمّموا على ما أشار به أخوهم.

وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم: { يا أبانا } يقضي أنّ تلك عادتهم في خطاب الابن أباه.

ولعل يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ كان لا يأذن ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ بالخروج مع إخوته للرعي أو للسّبق خوفاً عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم، ولم يكن يصرّح لهم بأنّه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزّلوه منزلة من لا يأمنهم، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان.

وفي التّوراة أن يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون، وإذا لم يكن تحريفاً فلعلّ يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ بعد أن امتنع من خروج يوسف ـــ عليه السّلام ـــ معهم سمح له بذلك، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك.

وتركيب { ما لك } لا تفعل. تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: { { فما لكم كيف تحكمون } في سورة يونس (35)، وانظر قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا مَا لَكمْ إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض } في سورة بَراءة (38). وقوله: { { فما لكم في المنافقين فئتين } في سورة النساء (88).

واتفق القرّاء على قراءة { لا تأمنّا } بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلّمين، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة. واختفلوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض، وإدغام بإشمام، وإخفاء بلا إدغام، وهذا الوجه الأخير مرجوح، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين.

وحرف { على } التي يتعدّى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكّن من تعلّق الائتمان بمدخول { على }.

والنّصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح، وفعله يتعدّى باللاّم غالباً وبنفسه. وتقدّم في قوله تعالى: { { أبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم } في سورة الأعراف (62).

وجملة { وإنّا له لناصحون } معترضة بين جملتي { ما لك لا تأمنّا } وجملة { أرسله }. والمعنى هنا: أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ.

وجملة { أرسله } مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ لمعرفة ما يريدون منه ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ.

و{ يرتَع } قرأه نافع، وأبو جعفر، ويعقوب ـــ بياء الغائب وكسر العَين ـــ. وقرأه ابن كثير ـــ بنون المتكلّم المشارك وكسر العين ـــ وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعَى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه.

فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلاً ذريعاً فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام. وإنّما ذكروا ذلك لأنّه يسرّ أباهم أن يكونوا فرحين.

وقرأه أبو عمرو، وابن عامر ـــ بنون وسكون العين ـــ. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ـــ بياء الغائب وسكون العين ـــ وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتَع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام. والتحقيق أنّ هذا مستعار من رتعت الدّابة إذا أكلت في المرعى حتّى شبعت. فمفاد المعنى على التأويلين واحد.

واللّعب: فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسّبق والمراماة، نحو قول امرىء القيس:

فظلّ العذارى يرتمين بشحمها

يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة. وهو مباح في الشرائع كلّها إذا لم يصر دأباً. فلا وجه لتساؤل صاحب «الكشاف» على استجازة يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ لهم اللعب.

والذين قرأوا { نرتع } بنون المشاركة قرأوا { ونلعب } بالنون أيضاً.

وجملة { وإنّا له لحافظون } في موضع الحال مثل { { وإنّا له لناصحون } [سورة يوسف: 10]. والتّأكيد فيهما للتّحقيق تنزيلاً لأبيهم منزلة الشّاك في أنّهم يحفظونه وينصحونه كما نزّلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنّه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه.

وتقديم { له } في { له لناصحون } و{ له لحافظون } يجوز أن يكون لأجل الرعاية للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في ظاهر الأمر، ويجوز أن يكون للقصر الادّعائي؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره.

وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطىء أهل الغرض الواحد على التحيّل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إيّاهم على أخيهم وإظهار أنّهم نصحاء له، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد، ثمّ أظهروا أنّهم ما حرصوا إلاّ على فائدة أخيهم وأنّهم حافظون له وأكّدوا ذلك أيضاً.