التفاسير

< >
عرض

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ
١٣
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ
١٤
-يوسف

التحرير والتنوير

فصل جملة { قال } جار على طريقة المحاورة.

أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف ـــ عليه السّلام ـــ معهم إلى الرّيف بأنّه يحزنه لبعده عنه أيّاماً، وبأنّه يخشى عليه الذئاب، إذ كان يوسف ـــ عليه السّلام ـــ حينئذٍ غلاماً، وكان قد رُبّيَ في دَعَة فلم يكن مَرناً بمقاومة الوحوش، والذئابُ تَجْتَرىءُ على الذي تحسّ منه ضعفاً في دفاعها. قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة:

والذّئب أخشاه إن مررت بهوحدي وأخشى الرياح والمطرا

وقال الفرزدق يذكر ذئباً:

فقلت له لمّا تكشّر ضاحكاًوقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لا تخوننينكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فذئاب بادية الشّام كانت أشدّ خبثاً من بقية الذئاب، ولعلّها كانت كذئاب بلاد الرُّوس. والعرب يقولون: إنّ الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتّى عضّ الإنسان وأسال دمه أنّه يضرى حين يرى الدمّ فيستأسد على الإنسان، قال:

فكنت كذئب السّوء حين رأى دماًبصاحبه يوماً أحال على الدم

وقد يتجمّع سرب من الذئاب فتكون أشدّ خطراً على الواحد من الناس والصغير.

والتعريف في { الذئب } تعريف الحقيقة والطبيعة، ويسمّى تعريف الجنس. وهو هنا مراد به غير معيّن من نوع الذئب أو جماعة منه، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذّوات لا من أحوال الجنس، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون تعيين. ونظيره قوله تعالى: { { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [سورة الجمعة: 5] أي فرد من الحمير غير معيّن، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأنّ الجنس لا يحمل. ومنه قولهم: (ادخل السوق) إذا أردت فرداً من الأسواق غير معين، وقولك: ادخل، قرينة على ما ذكر. وهذا التّعريف شبيه بالنّكرة في المعنى إلاّ أنّه مراد به فرد من الجنس. وقريب من هذا التّعريف باللاّم التعريف بعلم الجنس، والفرق بين هذه اللام وبين المنكّر كالفرق بين علم الجنس والنكرة.

فالمعنى: أخاف أن يأكله الذّئب، أي يَقتله فيأكل منه فإنّكم تبعدون عنه، لمَا يعلم من إمعانهم في اللّعب والشّغل باللهو والمسابقة، فتجتري الذئاب على يوسف عليه السّلام.

والذئب: حيوان من الفصيلة الكلبيّة، وهو كلب بَرّي وحشيّ. من خلقه الاحتيال والنفورُ. وهو يفترس الغنم. وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربّما مزّقه.

وإنّما ذكر يعقوب عليه السّلام أنّ ذهابهم به غَدا يحدث به حزناً مستقبلاً ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأنّ شأن الابن البار أن يتّقي ما يحزن أباه.

وتأكيد الجملة بحرف التّأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أنّ حزنه لفراقه ثابت، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك، إذْ رأى إلحاحهم. ويسري التّأكيد إلى جملة { وأخاف أن يأكله الذئب }.

فأبوا إلاّ المراجعة قالوا: { لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنّا إذاً لخاسرون }.

واللاّم في { لئِن أكله } موطّئة للقسم، أرادوا تأكيد الجواب باللاّم. وإنّ ولام الابتداء وإذن الجوابيّة تحقيقاً لحصول خسرانهم على تقدير حصول الشّرط. والمراد: الكناية عن عدم تفريطهم فيه وعن حفظهم إيّاه لأنّ المرء لا يرضى أن يوصف بالخسران.

والمراد بالخسران: انتفاء النفع المرجوّ من الرّجال، استعاروا له انتفاء نفع التاجر من تجره، وهو خيبة مذمومة، أي إنّا إذن لمسلوبون من صفات الفتوة من قوة ومقدرة ويقظة. فكونهم عصبة يحول دون تواطيهم على ما يوجب الخسران لِجميعهم. وتقدم معنى العصبة آنفاً، وفي هذا عبرة مِن مقدار إظهار الصّلاح مع استبطان الضرّ والإهلاك.

وقرأ الجمهور بتحقيق همزة { الذئب } على الأصل. وقرأه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو، والكسائيّ بتخفيف الهمزة ياء. وفي بعض التفاسير نسب تخفيف الهمزة إلى خلف، وأبي جعفر، وذلك لا يعرف في كتب القراءات. وفي البيضاوي أنّ أبا عَمرو أظهر الهمزة في التوقّف، وأنّ حمزة أظهرها في الوصل.