التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
٤
-يوسف

التحرير والتنوير

{ إذ قال } بدل اشتمال أو بَعْض من { { أحْسَن القصص } [سورة يوسف: 3] على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول، فإنّ أحسن القصص يشتمل على قصَص كثير، منه قَصص زمان قول يوسفَ عليه السّلام لأبيه { إني رأيت أحَدَ عَشَرَ كوكباً } وما عقب قوله ذلك من الحوادث. فإذا حمل { { أحسن القصص } [سورة يوسف: 3] على المصدر فالأحسن أن يكون { إذْ } منصوباً بفعل محذوف يدلّ عليه المقام، والتّقدير: اذْكر.

ويُوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى: { { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } الخ في سورة الأنعام (83). وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه (راحِيل). وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة. وكان يوسف أحب أبناء يعقوب ـــ عليهما السّلام ـــ إليه وكان فَرْط محبة أبيه إياه سَببَ غيرة إخوته منه فكادُوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم. فأخرجوه معهم بعلّة اللعب والتفسح، وألقَوْهُ في جبّ، وأخبروا أباهم أنّهم فقدوه، وأنهم وجدوا قميصه ملوّثاً بالدّم، وأروه قميصه بعد أن لطّخوه بدم، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذٍ في حكم أمّة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو (الهكْصوص). وذلك في زمن الملك (أبو فيس) أو (ابيبي). ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح ـــ عليه السّلام ـــ فاشتراه (فوطيفار) رئيس شرطة فرعون الملقّبُ في القرآن بالعزيز، أي رئيس المدينة. وحدثت مكيدة له من زوج سيّده ألقي بسببها في السجن. وبسبب رؤيا رآها الملِكُ وعَبّرها يوسف ـــ عليه السّلام ـــ وهو في السِجن، قَرّبه الملك إليه زُلفى، وأولاه على جميع أرض مصر، وهو لقب العزيز وسَمّاه (صفنات فعنيج)، وزوّجه (أسنات) بنت أحد الكهنة وعمره يومئذٍ ثلاثون سنة. وفي مدة حكمه جَلَب أباه وأقاربه من البريّة إلى أرض مصر، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر. وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى ـــ عليه السّلام ـــ. وحنّط على الطريقة المصرية. ووُضع في تابوت، وأوصى قبل موته قومه بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم. ولمّا خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف ـــ عليه السّلام ـــ معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في (شكِيم) في مدة يوشع بن نون.

والتاء في (أبَت) تاء خاصّة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم، فمفادها مفاد: يا أبي، ولا يكاد العرب يقولون: يا أبي. وورد في سَلام ابن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنوّرة. وقد تحيّر أيمّة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف، وأنها جعلت عوضاً عن ياء المتكلم لِعلة غير وجيهة. والذي يظهر لي أنّ أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنّه نقص من لام الكلمة، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا: يا أبتي، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال. ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه:

أيَا أبتي لا زلتَ فينا فإنّمَالنا أملٌ في العيْش ما دمت عائشاً

ويجوز كسر هذه التّاء وفتحها، وبالكسر قرأها الجمهور، وبفتح التّاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر.

والنداء في الآية مع كون المنادى حاضراً مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له.

والكوكب: النجم، تقدّم عند قوله تعالى: { { فلمّا جن عليه الليل رأى كوكباً } في سورة الأنعام (76).

وجملة { رأيتهم } مؤكدة لجملة { رأيتُ أحدَ عَشَرَ كوكباً }، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيداً لفظياً أو استئنافاً بيانياً، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي أخباراً عمّا رأى.

ومثال ذلك ما وقع في «الموطّأ» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم" الحديث.

وفي البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل، ورأيت فيها بقرا تذبح، ورأيت.. واللّهُ خير" . وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطّويل "إنّه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنّهما قالا لي: انطلق، وإنّي انطلقت معهما، وإنّا أتينا على رجل مضطجع" الحديث بتكرار كلمة (إنّ) وكلمة (إنّا) مراراً في هذا الحديث.

وقرأ الجمهور { أحَدَ عَشَرَ } ـــ بفتح العين ـــ من { عَشَرَ }. وقرأه أبو جعفر ـــ بسكون العين ـــ.

واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله: { رأيتهم لي ساجدين }، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد، كما قال تعالى في الأصنام { { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [سورة الأعراف: 198]، وقال: { { يا أيها النمل ادخلوا } [سورة النمل: 18].

وقال جماعة من المفسّرين: إنه لمّا كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء، وهي حالة السجود نزّلها منزلة العقلاء، فأطلق عليها ضمير (هم) وصيغة جمعهم.

وتقديم المجرور على عامله في قوله: { لي ساجدين } للاهتمام، عبّر به عن معنى تضمّنه كلام يوسف ـــ عليه السّلام ـــ بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربيّة.

وابتداء قصة يوسف ـــ عليه السّلام ـــ بذكر رؤياه إشارة إلى أنّ الله هيّأ نفسه للنبوءة فابتدأه بالرؤيا الصّادقة كما جاء في حديث عائشة «أنّ أوّلَ ما ابتدىء رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلق الصبح». وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف ـــ عليه السّلام ـــ من طهارة وزكاء نفس وصبر. فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدّمة والتّمهيد للقصّة المقصودة.

وجعل الله تلك الرؤيا تنبيهاً ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبتهُ طيبة.

وإنما أخبر يوسف ـــ عليه السّلام ـــ أباه بهاته الرؤيا لأنّه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيراً، وعلم أنّ الكواكب والشّمس والقمر كناية عن موجودات شريفة، وأنّ سجود المخلوقات الشّريفة له كناية عن عظمة شأنه. ولعلّهُ علم أنّ الكواكب كناية عن موجودات متماثلة، وأنّ الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه.

وكانوا يعدّون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الرائي غير منحرف ولا مضطرب، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق ـــ عليهم السّلام ـــ. فقد كانوا آل بيت نبوءة وصفاء سريرة.

ولمّا كانت رؤيا الأنبياء وَحْياً، وقد رأى إبراهيم ـــ عليه السّلام ـــ في المنام أنّه يذبح وَلَدَه فلمّا أخبره { { قال يا أبت افْعل ما تؤمَر } [سورة الصافات: 102]. وإلَى ذلك يشير قول أبي يوسف عليه السّلام: { { ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } [سورة يوسف: 6]. فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثاً ملكياً.

وفي الحديث: "لم يَبق من المبشرات إلاّ الرؤيا الصّالحة يراها المسلم أو ترى له" .

والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوءة. وقد جاء في التّوراة أن الله خاطب إبراهيم عليه السّلام في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملْكي صَادق وبشّره بأنه يهبه نسلاً كثيراً، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها (في الإصحاح 15 من سفر التكوين).

أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام، ولعل قول كعب بن زهير:

إن الأماني والأحلام تضليل

يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم.

ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحِجْر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصَف له مكانها، وكانت جرهم سَدَموها عند خروجهم من مكة. وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن: راكباً أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ: يا آل غُدَر أُخرُجوا إلى مصارعكم في ثلاث فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال.

وقد عدت المرائي النوميّة في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السّالفة مثل الحنيفية. وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدّين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق، وأبو علي بن سينا في الإشارات بما حاصله: وأصله: أنّ النفس الناطقة (وهي المعبّر عنها بالروح) هي من الجواهر المجرّدة التي مَقرها العالم العلوي، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول، وأنّها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة، وأنّ للنفس الناطقة آثاراً من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسّه المشترك، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان: أحدهما حِسّيّ خارجيّ، والآخر باطنيّ عقليّ أو وهميّ، وقوَى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتدّ بعضُها ضعف البعضُ الآخر كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة، فكذلك إنْ تَجَرّدَ الحس الباطن للعمل شغل عن الحسّ الظاهر، والنوم شاغل للحسّ، فإذا قلّت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلّص النفس عن شغل مخيلاتها، فتطلّع على أمور مغيبة، فتكونُ المنامات الصادقة.

والرؤيا الصادقةُ حالةٌ يكرم الله بها بعض أصْفيائه الذين زكت نفوسهم فتتّصل نفوسهم بتعلّقات من علم الله وتعلّقات من إرادته وقدرته وأمره التكوينيّ فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزّمان قبل وقوعها، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعاً عاديّاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "الرؤيا الصالحة من الرّجل الصالح جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوءة" . وقد بُيّن تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث. وقال: "لم يبق من النبوءة إلاّ المبشّرات وهي الرؤيا الصّالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له" .

وإنّما شرطت المرائي الصادقة بالنّاس الصّالحين لأنّ الارتياض على الأعمال الصّالحة شاغل للنفس عن السيّئات، ولأنّ الأعمال الصّالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتّصال بعالَمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه، وبعكس ذلك الأعمال السيّئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها.

والرؤيا مراتب:

منها أن: ترى صور أفعال تتحقّق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكّة إلى أرض ذات نخل، وظنّه أنّ تلك الأرض اليمامة فظهر أنّها المدينة، ولا شك أنّه لمّا رأى المدينة وجَدَها مطابقة للصّورة التي رآها، ومثل رؤياه امرأة في سَرَقَة من حرير فقيل له اكشِفْها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة، فعلم أن سيتزوجها. وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية.

ومنها أن ترى صُورٌ تكون رموزاً للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء، إلاّ أنّ هذا تخترعه الألباب في حالة هدوّ الدمَاغ من الشواغل الشاغلة، فيكون أتقن وأصدق. وهذا أكثر أنواع المرائي. ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يشرب من قدح لَبن حتى رأى الريّ في أظفاره ثم أعطَى فضلَه عمرَ بن الخطّاب ـــ رضي الله عنه ـــ. وتعبيره ذلك بأنّه العلم.

وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شَعَرَهَا خارجة من المدينة إلى الجحفة، فعبّرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة، ورئِيَ عبد الله بن سلام أنه في روضة، وأنّ فيها عموداً، وأنّ فيه عروة، وأنّه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود، فعبّره النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه لا يزال آخذاً بالإيمان الذي هو العروة الوثقى، وأنّ الروضة هي الجنّة، فقد تَطابَق التمثيل النوميّ مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى: { { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } [سورة البقرة: 256]، وفي قول النبي: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" .

وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى: { { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } [سورة يوسف: 100].