التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ
٤٣
قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ
٤٤
وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
٤٥
-يوسف

التحرير والتنوير

هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف ـــ عليه السّلام ـــ من السجن.

والتعريف في { الملك } للعهد، أي ملك مصر. وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعونَ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها (الهِكسوس)، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة، أي البَدو. وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح ـــ عليه السّلام ـــ. وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة (طِيبة) كما تقدم عند قوله تعالى: { { وقال الذي اشتراه } [سورة يوسف: 21]. وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفاً لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى. ويقدّر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف عليه السّلام كان في مدة العائلة السابعة عشرة.

فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبّر عن ملك مصر في زمن موسى عليه السّلام بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي. وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف عليه السّلام فرعون وما هو بفرعون لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبَة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف عليه السّلام في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك.

وقوله: { سِمانٍ } جمع سمينة وسَمين، مثل كرام، وهو وصف لـــ { بقرات }.

و{ عجاف } جمع عجفاء. والقياس في جمع عجفاء عُجف لكنه صيغ هنا بوزن فِعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو { سمان }. كما قال الشاعر:

هتّاك أخبية ولاّج أبوية

والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية.

والعجفاء: ذات العَجَف بفتحتين وهو الهزال الشديد.

و{ وسبع سنبلات } معطوف على { سبع بقرات }. والسنبلة تقدمت في قوله تعالى: { { كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل } في سورة البقرة (261).

والملأ: أعيان الناس. وتقدم عند قوله تعالى: { { قال الملأ من قومه } في سورة الأعراف (60).

والإفتاء: الإخبار بالفتوى. وتقدمت آنفاً عند قوله: { { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [سورة يوسف: 41].

و{ في } للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي أفتوني إفتاء ملابساً لرؤياي ملابسة البيان للمجمل.

وتقديم { للرؤيا } على عامله وهو { تعبرون } للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير. والتعريف في { للرؤيا } تعريف الجنس.

واللام في { للرؤيا } لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله. يقال: عَبَر الرؤيا من باب نَصر. قال في «الكشاف»: وعبَرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات. ورأيتهم ينكرون عبّرت بالتشديد والتعبير، وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب «الكامل» لبعض الأعراب:

رأيت رؤْيَاي ثم عبّرتُهاوكنتُ للأحلام عَبّارا

والمعنى: فسر ما تدل عليه وأوّل إشاراتها ورموزها.

وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به. وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم. وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرُّؤى، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في رؤييهما ينبىء بأن ذلك شائع فيهم، وسؤال المَلك أهل ملأه تعبير رؤياه ينبىء عن احتواء ذلك الملأ على من يُظنّ بهم علم تعبير الرؤيا، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا.

وفي التوراة «فأرسل ودعا جميع سَحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له». وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات. وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن كسرى أرسل إلى سطيح الكاهن ليعبر له رؤيا أيام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وهي معدودة من الإرهاصات النبوية. وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح.

فالتعريف في قوله { للرؤيا } تعريف العهد، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى. والمعنى: إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا.

والأضغاث: جمع ضغث ـــ بكسر الضاد المعجمة ـــ وهو: ما جمع في حُزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام، أي أضغاث للأحلام.

والأحلام: جمع حُلُم ـــ بضمتين ـــ وهو ما يراه النائم في نومه. والتقدير: هذه الرؤيا أضغاث أحلام. شبهت تلك الرؤيا بالأضغاث في اختلاطها وعدم تميز ما تحتويه لمّا أشكل عليهم تأويلها.

والتعريف فيه أيضاً تعريف العهد، أي ما نحن بتأويل أحلامك هذه بعالمين. وجمعت { أحلام } باعتبار تعدد الأشياء المرئية في ذلك الحُلم، فهي عدة رُؤَى.

والباء في { بتأويل الأحلام } لتأكيد اتصال العامل بالمفعول، وهي من قبيل باء الإلصاق مثل باء { { وامسحوا برؤوسكم } [سورة المائدة: 6]، لأنهم نفوا التمكن من تأويل هذا الحلم. وتقديم هذا المعمول على الوصف العامل فيه كتقديم المجرور في قوله: { إن كنتم للرؤيا تعبرون }.

فلما ظهر عَوْصُ تعبير هذا الحُلم تذكر سَاقي الملك ما جرى له مع يوسف ـــ عليه السّلام ـــ فقال: { أنا أنبئكم بتأويله }.

وابتداء كلامه بضميره وجعله مسنداً إليه وخبره فعلي لقصد استجلاب تعجب الملك من أن يكون الساقي ينبىء بتأويل رؤيا عَوِصَتْ على علماء بلاط الملك، مع إفادة تقوّي الحكم، وهو إنباؤه إياهم بتأويلها، لأن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق الإثبات يفيد التقوّي، وإسناد الإنباء إليه مجاز عقلي لأنه سبب الإنباء، ولذلك قال: { فأرْسِلُون }. وفي ذلك ما يستفز الملك إلى أن يأذن له بالذهاب إلى حيث يريد ليأتي بنبأ التأويل إذ لا يجوز لمثله أن يغادر مجلس الملك دون إذن. وقد كان موقناً بأنه يجد يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في السجن لأنه قال: { أنا أنبئكم بتأويله } دون تردد. ولعل سبب يقينه ببقاء يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في السجن أنه كان سجنَ الخاصة فكان ما يحدث فيه من إطلاق أو موت يبلغ مسامع الملك وشيعته.

و{ ادّكر } بالدال المهملة أصله: اذتكر، وهو افتعال من الذكر، قلبت تاء الافتعال دالاً لثقلها ولتقارب مخرجيهما ثم قلبت الذال ليتأتّى ادغامها في الدال لأن الدال أخف من الذال. وهذا أفصح الإبدال في ادّكر. وهو قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { { فهل من مدّكر } [سورة القمر: 15] كما في الصحيح.

ومعنى { بعد أمة } بعد زمن مضى على نسيانه وصاية يوسف ـــ عليه السّلام ـــ. والأمة: أطلقت هنا على المدة الطويلة، وأصل إطلاق الأمة على المدة الطويلة هو أنها زمن ينقرض في مثله جيل، والجيل يسمى أمة، كما في قوله تعالى: { { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس } [سورة آل عمران: 110] على قول من حمله على الصحابة.

وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي. وفي التوراة كانت مدة نسيانه سنتين.

وضمائر جمع المخاطب في { أنبئكم } ـــ { فأرسلون } مخاطب بها الملك على وجه التعظيم كقوله تعالى: { { قال رب ارجعون } [سورة المؤمنون: 99].

ولم يسمّ لهم المرسل إليه لأنه أراد أن يفاجئهم بخبر يوسف عليه السّلام بعد حصول تعبيره ليكون أوقع، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين.