التفاسير

< >
عرض

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
-النحل

التحرير والتنوير

عطف عظة على عظة. والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم من قوله: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل: 53] وما اتّصل بها إلى قوله: { { يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } [سورة النحل: 83]. فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قوله: { { ويوم نبعث من كل أمة شهيداً } [سورة النحل: 84].

فبعد أن توعّدهم بقوارع الوعيد بقوله: { { ولهم عذاب أليم } [سورة النحل: 104] وقوله: { { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } [سورة النحل: 106] إلى قوله { { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } [سورة النحل: 109] عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا، أو جعلهم مثَلاً وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله.

ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملة { { يوم تأتي كل نفس } [سورة النحل: 111] الخ. على اعتبار تقدير (اذكر)، أي اذكر لهم هول يوم تأتي كل نفس تجادل الخ. وضرب الله مثلاً لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة الخ.

و{ ضربَ }: بمعنى جعل، أي جعل المركّب الدّال عليه وكوّن نظمه، وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقال: أرسل فلان مثلاً قوله: كيْت وكيْت.

والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة الماضي للتشويق إلى الإصغاء إليه، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه، مثل { أتى أمر الله } [سورة النحل: 1] أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال، مثل قد قامت الصلاة.

ويجوز أن يكون { ضرب } مستعملاً في معنى الطلب والأمر، أي اضرب يا محمد لقومك مثلاً قرية إلى آخره، كما سيجيء عند قوله تعالى { { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء } في سورة الزمر (29). وإنما صيغ في صيغة الخبر توسّلاً إلى إسناده إلى الله تشريفاً له وتنويهاً به. ويفرّق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحو { { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } [سورة يس: 13] بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه. وقد تقدّم في قوله تعالى: { { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة (26)، وقوله في سورة إبراهيم (24) { { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة } }.

وجُعل المثلُ قريةً موصوفة بصفات تبيّن حالها المقصود من التمثيل، فاستغني عن تعيين القرية.

والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم أعني مكة بأن جعلهم مثلاً للناس من بعدهم. ويقْوَى هذا الاحتمالُ إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب أهلَ مكّة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } [سورة الدخان: 10 - 11]. وهو الدخان الذي كان يراه أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبي.

ويؤيد هذا قوله بعد { { ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } [سورة النحل: 113].

ولعلّ المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فُتنوا، أي أصحاب هجرة الحبشة تسليةً لهم عن مفارقة بلدهم، وبعثاً لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها وما يصيبهم.

وتقدّم معنى القرية عند قوله تعالى: { { أو كالذي مرّ على قرية } في سورة البقرة (259).

والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله: { { واسأل القرية } [سورة يوسف: 82].

والأمن: السلامة من تسلّط العدو.

والاطمئنان: الدّعة وهدوء البال. وقد تقدّم في قوله تعالى: { { ولكن ليطمئنّ قلبي } في سورة البقرة (260)، وقوله: { { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } في [سورة النساء: 103].

وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه، كما أن الخوف يسبّب الانزعاج والقلق.

وقوله: { يأتيها رزقها رغداً } تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش، وقد كانت مكّة كذلك. قال تعالى: { { أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء } [سورة القصص: 57]. والرزق: الأقوات. وقد تقدم عند قوله: { { لا يأتيكما طعام ترزقانه } في سورة يوسف (37).

والرّغد: الوافر الهنيء. وتقدم عند قوله: { { وكلا منها رغداً حيث شئتما } في سورة البقرة (35).

و{ من كل مكان } بمعنى من أمكنة كثيرة. و{ كل } تستعمل في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى: { { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة الأنعام (25).

والأنعمُ: جمع نعمة على غير قياس.

ومعنى الكفر بأنعم الله: الكفر بالمنعِم، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحَقّ. وهذا يشير إلى قوله تعالى: { { يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } [سورة النحل: 83].

واقتران فعل { كفرت } بفاء التعقيب بعد { كانت آمنة مطمئنة } باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر، وذلك عند بعثة الرسول إليهم.

وأما قَرْن { فأذاقها الله لباس الجوع } بفاء التعقيب فهو تعقيب عُرفي في مثل ذلك المعقّب لأنّه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرّون على كفرهم والرسول يكرّر الدعوة وإنذارهم به، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاءً على كفرهم جعل كالشيء المعقّب به كفرهم.

والإذاقة: حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم. وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساساً مَكيناً كتمكّن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعاً، وقد تقدم في قوله تعالى: { ليذوق وبال أمره } في سورة العقود (95).

واللباس: حقيقته الشيء الذي يلبس. وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشَى من حالة إنسان ملازمةٍ له كملازمة اللباس لابسَه، كقوله تعالى: { { هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ } [سورة البقرة: 187] بجامع الإحاطة والملازمة.

ومن قبيلها استعارة (البِلى) لزوال صفة الشخص تشبيهاً للزوال بعد التمكّن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي:

ولا تَبلَى بسالتهم وإن همصُلوا بالحرب حيناً بعد حين

واستعارة سلّ الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرىء القيس:

فسُلي ثيابي عن ثيابكِ تَنْسِل

ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزاراً ودرعاً.

ولما كان اللباس مستعاراً لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمتهِ أريد إفادة أن ذلك متمكّن منهم ومستقرّ في إدراكهم استقرار الطعام في البَطن إذ يُذاق في اللسان والحلق ويحسّ في الجَوف والأمعاء.

فاستعير له فعل الإذاقة تمليحاً وجمعاً بين الطعام واللباس، لأن غاية القرى والإكرام أن يُؤْدَب للضيف ويُخلع عليه خلعة من إزار وبرد، فكانت استعارتان تهكّميتان.

فحصل في الآية استعارتان: الأولى: استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة، والثانية: اللباس وهي أصليّة مصرّحة.

ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرّعة على الأولى ومركّبة عليها بجعل لفظها مفعولاً للفظ الأولى. وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغاً أليماً.

وأجمل { بما كانوا يصنعون } اعتماداً على سبق ما يبيّنه من قوله: { فكفرت بأنعم الله }.