التفاسير

< >
عرض

وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥
وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
١٦
-النحل

التحرير والتنوير

انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان. وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبّر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض. ولعلّ خلقها كان متأخراً عن خلق الأرض، إذ لعلّ الجبال انبثقت باضطرابات أرضيّة كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار. وأما السبل والعلامات فتأخّر وجودها ظاهر، فصار خلق هذه الأربعة شبيهاً بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه.

ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح الأرض، كما أن الأمطار تهاطلت فكوّنت الأنهار؛ فيكون تشبيه حصول هذين بالإلقاء بيّناً. وإطلاقه على وضع السبل والعلامات تغليب. ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء ونحوه قوله تعالى: { { ءألقي الذكر عليه من بيننا } [سورة القمر: 25].

و{ رواسي } جمع راس. وهو وصف من الرسْو ــــ بفتح الراء وسكون السين ــــ. ويقال ــــ بضم الراء والسين مشددة وتشديد الواو ــــ. وهو الثبات والتمكن في المكان، قال تعالى: { { وقدور راسيات } [سورة سبأ: 13].

ويطلق على الجبل راس بمنزلة الوصف الغالب. وجمعه على زنة فواعل على خلاف القياس. وهو من النوادر مثل عَواذل وفوارس. وتقدم بعض الكلام عليه في أول الرعد.

وقوله تعالى: { أن تميد بكم } تعليل لإلقاء الرواسي في الأرض. والمَيْد: الاضطراب. وضمير { تميد } عائد إلى { الأرض } بقرينة قرنه بقوله تعالى: { بكم }، لأن الميد إذا عُدّي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقرّ في الظرف المَائد، والاضطراب يعطّل مصالح الناس ويلحق بهم آلاماً.

ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعُه. فالكلام جار على حذفٍ تقتضيه القرينة، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب، قال عمرو بن كلثوم:

فعجّلنا القِرى أن تشتمونا

أراد أن لا تشتمونا. فالعلّة هِي انتفاء الشتم لا وقوعه. ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النّفي بعد { أنْ }. والتقدير: لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا، وهو الظاهر. ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و{ أنْ }. تقديره: كراهيّة أن تميد بكم.

وهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية معنى غامض. ولعلّ الله جعَل نتوء الجبال على سطح الأرض معدّلاً لكرويتها بحيث لا تكون بحدّ من الملاسة يخفّف حركتها في الفضاء تخفيفاً يوجب شدّة اضطرابها.

ونعمة الأنهار عظيمة، فإن منها شرابهم وسقي حرثهم، وفيها تجري سفنهم لأسفارهم.

ولهذه المنّة الأخيرة عطف عليها { وسبلاً } جمع سبيل. وهو الطريق الذي يسافر فيه براً.

وجملة { لعلكم تهتدون } معترضة، أي رجاء اهتدائكم. وهو كلام موجه يصلح للاهتداء إلى المقاصد في الأسفار من رسم الطرق وإقامة المراسي على الأنهار واعتبار المسافات. وكل ذلك من جعل الله تعالى لأن ذلك حاصل بإلهامه. ويصلح للاهتداء إلى الدّين الحقّ وهو دين التوحيد، لأن في تلك الأشياء دلالة على الخالق المتوحّد بالخلق.

والعلامات: الأمارات التي ألهم الله الناس أن يضعوها أو يتعارفوها لتكون دلالة على المسافات والمسالك المأمونة في البرّ والبحر فتتبعها السابلة.

وجملة { وبالنجم هم يهتدون } معطوفة على جملة { وألقى في الأرض رواسي }، لأنها في معنى: وهداكم بالنجم فأنتم تهتدون به. وهذه منّة بالاهتداء في الليل لأن السبيل والعلامات إنما تهدي في النهار، وقد يضطرّ السالك إلى السير ليلاً؛ فمواقع النجوم علامات لاهتداء الناس السائرين ليلاً تعرف بها السماوات، وأخصّ من يهتدي بها البحّارة لأنهم لا يستطيعون الإرساء في كل ليلة فهم مضطرّون إلى السير ليلاً، وهي هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر، ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى: { وبالنجم } تقديماً يفيد الاهتمام، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى: { هم يهتدون }.

وعدل عن الخطاب إلى الغيبة التفاتاً يومىء إلى فريق خاص وهم السيّارة والملاّحون فإن هدايتهم بهذه النجوم لا غير.

والتعريف في «النجم» تعريف الجنس. والمقصود منه النجوم التي تعارفها الناس للاهتداء بها مثل القطب. وتقدم في قوله تعالى: { { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } في [سورة الأنعام: 97].

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله تعالى { هم يهتدون } لمجرّد تقوي الحكم، إذ لا يسمح المقام بقصد القصر وإن تكلّفه في «الكشاف».