التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٠
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣١
-النحل

التحرير والتنوير

{ جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ }.

لمّا افتتحت صفة سيّئات الكافرين وعواقبها بأنّهم إذا قيل لهم { { ماذا أنزل ربكم } [سورة النحل: 24] قالوا: { { أساطير الأولين } [سورة النحل: 24]، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصّة الكافرين، فجاء التنظير بين القصّتين في أبدع نظم.

وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطراداً. ولم تقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم }، لأن قولهم: { أساطير الأولين } لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائلهُ وأن يرعوي إلى الحقّ وأن لا يجمع عليه القائلون، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرّر ذلك للدّلالة على إصْرارهم على الكفر، بخلاف ما هنا فإن الصّدق مظنّة استمرار قائله عليه فليْس بحاجة إلى التّنبيه على تكرّره منه.

والذين اتّقوا: هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه. والمراد بهم المؤمنون المعهودون في مكّة، فالموصول للعهد.

والمعنى أنّ المؤمنين سئُلوا عن القرآن، ومن جاء به، فأرشدوا السائلين ولم يتردّدوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه، وهو كلمة { خيراً } المنصوبة، فإن لفظها شامل لكلّ خير في الدّنيا وكلّ خير في الآخرة، ونصبَها دال على أنّهم جعلوها معمولة لــــ{ أنزل } الواقع في سؤال السائلين، فدل النّصب على أنّهم مصدّقون بأنّ القرآن منزل من عند الله، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم: { { ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } [سورة النحل: 24] بالرّفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } بالنّصب. وقد تقدم ذلك آنفاً عند قوله تعالى: { قالوا أساطير الأولين }. مستأنفة ابتدائية، وهي كلامٌ من الله تعالى مثل نظيرها في آية { { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة } في سورة الزمر (10)، وليست من حكاية قول الذين اتّقوا.

والّذين أحسنوا: هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصّلا بالإتيان بالموصول إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر، أي جزاؤهم حسنة لأنهم أحسنوا.

وقوله تعالى: { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } يجوز أن يتعلق بفعل { أحسنوا }. ويجوز أن يكون ظرفاً مستقرّاً حالاً من { حسنة }. وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة هذا التوسيط.

ومعنى { ولدار الآخرة خير } أنّها خير لهم من الدّنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن، فكما كان للّذين كفروا عذاب الدّنيا وعذاب جهنّم كان للّذين اتّقوا خيرُ الدّنيا وخير الآخرة. فهذا مقابل قوله تعالى في حقّ المشركين { { ليحملوا أوزارهم كاملة } [سورة النحل: 25] وقوله تعالى: { { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } [سورة النحل: 26].

وحسنة الدّنيا هي الحياة الطيّبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان. وخير الآخرة هو النّعيم الدّائم، قال تعالى: { { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزيّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [سورة النحل: 97].

وقوله تعالى: { ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها } مقابل قوله تعالى في ضدّهم { { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } [سورة النحل: 29].

وقد تقدّم آنفاً وجه تسمية جهنّم مثوى والجنّة داراً.

و(نِعم) فعل مدح غير متصرّف، ومرفوعُهُ فاعل دالّ على جنس الممدوح، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمّى المخصوص بالمدح، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوفُ المبتدإ. فإذا تقدّم ما يدلّ على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا، فإنّ تقدم { ولدار الآخرة } دلّ على أنّ المخصوص بالمدح هو دار الآخرة. والمعنى: ولنعم دار المتّقين دار الآخرة.

وارتفع { جنات عدن } على أنّه خبر لمبتدإ محذوف مما حذف فيه المسند إليه جرياً على الاستعمال في مسند إليه جرى كلام عليْه من قبلُ، كما تقدم في قوله تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [سورة النحل: 28]. والتقدير: هي جنات عدن، أي دار المتّقين جنات عدن.

وجملة { يدخلونها } حال من { المتقين }. والمقصود من ذكره استحضار تلك الحالة البديعة حالة دخولهم لدار الخير والحسنى والجنّات.

وجملة { لهم فيها ما يشاءون } حال من ضمير الرفع في { يدخلونها }. ومضمونها مكمل لما في جملة { يدخلونها } من استحضار الحالة البديعة.

وجملة { كذلك يجزي الله المتقين } مستأنفة، والإتيان باسم الإشارة لتمييز الجزاء والتّنويه به. وجعل الجزاء لتمييزه وكماله بحيث يشبّه به جزاءُ المتّقين. والتّقدير: يجزي الله المتّقين جزاء كذلك الجزاء الذي علمتموه. وهو تذييل لأنّ التعريف في { المتقين } للعموم.