التفاسير

< >
عرض

وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٧
-النحل

التحرير والتنوير

يجوز أن يعطف { الأنعام } عطف المفرد على المفرد عطفاً على { { الإنسان } [سورة النحل: 4]، أي خلق الإنسان من نطفة والأنعامَ، وهي أيضاً مخلوقة من نطفة، فيحصل اعتبار بهذا التكوين العجيب لشبهه بتكوين الإنسان، وتكون جملة { خلقها } بمتعلقاتها مستأنفة، فيحصل بذلك الامتنان.

ويجوز أن يكون عطف الجملة على الجملة، فيكون نصب { الأنعام } بفعل مضمر يفسّره المذكور بعده على طريقة الاشتغال. والتقدير: وخلق الأنعام خلقها. فيكون الكلام مفيداً للتأكيد لقصد تقوية الحكم اهتماماً بما في الأنعام من الفوائد؛ فيكون امتناناً على المخاطبين، وتعريضاً بهم، فإنهم كفروا نعمة الله بخلقها فجعلوا من نتاجها لشركائهم وجعلوا لله نصيباً. وأي كفران أعظم من أن يتقرّب بالمخلوقات إلى غير من خلقها. وليس في الكلام حصر على كلا التقديرين.

وجملة { لكم فيها دفء } في موضع الحال من الضمير المنصوب في { خلقها } على كلا التقديرين؛ إلا أن الوجه الأول تمام مقابلة لقوله تعالى: { { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } [سورة النحل: 4] من حيث حصول الاعتبار ابتداء ثم التعريض بالكفران ثانياً، بخلاف الوجه الثاني فإن صريحه الامتنان، ويحصل الاعتبار بطريق الكناية من الاهتمام.

والمقصود من الاستدلال هو قوله تعالى: { والأنعام خلقها } وما بعده إدماج للامتنان.

و{ الأنعام }: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز. وتقدم في سورة الأنعام. وأشهر الأنعام عند العرب الإبل، ولذلك يغلب أن يطلق لفظ الأنعام عندهم على الإبل.

والخطاب صالح لشمول المشركين، وهم المقصود ابتداء من الاستدلال، وأن يشمل جميع الناس ولا سيما فيما تضمّنه الكلام من الامتنان.

وفيه التفات من طريق الغيبة الذي في قوله تعالى: { عما يشركون } [سورة النحل: 3] باعتبار بعض المخاطبين.

والدِّفء بكسر الدال اسم لما يتدفّأ به كالمِلْء و الحِمْل. وهو الثياب المنسوجة من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها تتّخذ منها الخيام والملابس.

فلمّا كانت تلك مادة النسج جعل المنسوج كأنه مظروف في الأنعام.

وخص الدفء بالذكر من بين عموم المنافع للعناية به.

وعطف { منافع } على { دفء } من عطف العام على الخاص لأن أمر الدفء قلّما تستحضره الخواطر.

ثم عطف الأكلُ منها لأنه من ذواتها لا من ثمراتها.

وجملة { ولكم فيها جمال } عطف على جملة { لكم فيها دفء }.

وجملة { ومنها تأكلون } عطف على جملة { لكم فيها دفء }. وهذا امتنان بنعمة تسخيرها للأكل منها والتغذي، واسترداد القوة لما يحصل من تغذيتها.

وتقديم المجرور في قوله تعالى: { ومنها تأكلون } للاهتمام، لأنهم شديدو الرغبة في أكل اللحوم، وللرعاية على الفاصلة. والإتيان بالمضارع في { تأكلون } لأن ذلك من الأعمال المتكررة.

والإراحة: فعل الرواح، وهو الرجوع إلى المعاطن، يقال: أراح نعمهُ إذا أعادها بعد السروح.

والسروح: الإسامة، أي الغدُوّ بها إلى المراعي. يقال: سَرَحها ــــ بتخفيف الراء ــــ سَرحاً وسُروحاً، وسرّحها ــــ بتشديد الراء ــــ تسريحاً.

وتقديم الإراحة على التسريح لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج، لأنها تقبل حينئذٍ مَلأى البطون حافلة الضروع مَرحة بمسرّة الشبع ومحبّة الرجوع إلى منازلها من معاطن ومرابض.

والإتيان بالمضارع في { تريحون } و{ تسرحون } لأن ذلك من الأحوال المتكررة. وفي تكررها تكرر النعمة بمناظرها.

وجملة { وتحمل أثقالكم } معطوفة على { ولكم فيها جمال } فهي في موضع الحال أيضاً. والضمير عائد إلى أشهر الأنعام عندهم وهي الإبل، كقولها في قصّة أم زرع «رَكب شَرياً وأخذَ خطيّاً فأراح علي نعماً ثرياً»، فإن النعم التي تؤخذ بالرمح هي الإبل لأنها تؤخذ بالغارة.

وضمير { وتحمل } عائد إلى بعض الأنعام بالقرينة. واختيار الفعل المضارع بتكرر ذلك الفعل.

والأثقال: جمع ثَقَل ــــ بفتحتين ــــ وهو ما يثقل على الناس حمله بأنفسهم.

والمراد بــــ{ بلد } جنس البلد الذي يرتحلون إليه كالشام واليمن بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومنهم أهل مكة في رحلة الصيف والشتاء والرحلة إلى الحجّ.

وقد أفاد { وتحمل أثقالكم } معنى تحملكم وتبلغكم، بطريقة الكناية القريبة من التصريح. ولذلك عقب بقوله تعالى: { لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس }.

وجملة { لم تكونوا بالغيه } صفة لــــ { بلد }، وهي مفيدة معنى البعد، لأن بلوغ المسافر إلى بلد بمشقّة هو من شأن البلد البعيد، أي لا تبلغونه بدون الأنعام الحاملة أثقالكم.

والشِّقّ ــــ بكسر الشين ــــ في قراءة الجمهور: المشقة. والباء للملابسة. والمشقة: التعب الشّديد.

وما بعد أداة الاستثناء مستثنى من أحوال لضمير المخاطبين.

وقرأ أبو جعفر { إلا بشق الأنفس } ــــ بفتح الشين ــــ وهو لغة في الشِق المكسور الشين.

وقد نفت الجملة أن يكونوا بالغيه إلا بمشقّة، فأفاد ظاهرها أنهم كانوا يبلغونه بدون الرواحل بمشقّة وليس مقصوداً، إذ كان الحمل على الأنعام مقارناً للأسفار بالانتقال إلى البلاد البعيدة، بل المراد: لم تكونوا بالغيه لولا الإبل أو بدون الإبل، فحذف لقرينة السياق.

وجملة { إن بكم لرؤوف رحيم } تعليل لجملة { والأنعام خلقها }، أي خلقها لهذه المنافع لأنه رؤوف رحيم بكم.