التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
-الإسراء

التحرير والتنوير

القفو: الاتباع، يقال: قَفاه يقفوه إذا اتبعه، وهو مشتق من اسم القفا، وهو ما وراء العنُق. واستعير هذا الفعل هنا للعمل. والمراد بــــ { ما ليس لك به علم } الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غلبة ظن به.

ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة. منها خلةٌ من خلال الجاهلية، وهي الطعن في أنساب الناس، فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتاناً، أو سوءَ ظن إذا رأوا بعداً في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شَبَهه برجل آخر من الحي أو رأوا لوناً مخالفاً للون الأب أو الأم، تخرصاً وجهلاً بأسباب التشكل، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنَيْن أو الأبعدِين، وجهلا بالشبه الناشىء عن الوحَم. "وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت ولداً أسودَ (يريد أن ينتفي منه) فقال له النبي: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانهن؟ قال: وُرْق. قال: وهل فيها من جمل أسود؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعله عِرقٌ نزَعَه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلعل ابنك نزعه عِرق" ، ونهاه عن الانتفاء منه. فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك.

ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك. وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مُسِنٌّ امرأة شابة أو نصفاً فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة. "ولذلك لمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً سلوني أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول: مَن أبي؟ فيقول: أبوك فلان" . وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون وكان زيد أبوه أبيض أزهر، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أسامة بن زيد بن حارثة. فهذا خلق باطل كان متفشياً في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره.

ومنها تجنب الكذب. قال قتادة: لا تقف: لا تقل: رأيتُ وأنتَ لم تر، ولا سمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم.

ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة.

وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا }. فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات.

وهذا أدب خُلقي عظيم، وهو أيضاً إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم. ثم هو أيضاً إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة.

وقد صيغت جملة { كل أولئك كان عنه مسئولا } على هذا النظم بتقديم (كل) الدالة على الإحاطة من أول الأمر. وأتي باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال: كلها كان عنه مسؤولاً، لما في الإشارة من زيادة التمييز. وأقحم فعل (كان) لدلالته على رسوخ الخبر كما تقدم غير مرة.

و{ عنه } جار ومجرور في موضع النائب عن الفاعل لاسم المفعول، كقوله: { غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7]. وقدم عليه للاهتمام، وللرعي على الفاصلة. والتقدير: كان مسؤولاً عنه، كما تقول: كان مسؤولاً زيد. ولا ضير في تقديم المجرور الذي هو في رتبة نائب الفاعل وإن كان تقديم نائب الفاعل ممنوعاً لتوسع العرب في الظروف والمجرورات، ولأن تقديم نائب الفاعل الصريح يصيّره مبتدأ ولا يصلح أن يكون المجرور مبتدأ فاندفع مانع التقديم.

والمعنى: كلّ السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عن نفسه، ومحقوقاً بأن يبين مستند صاحبه من حسه.

والسؤال: كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كقول كعب:

وقيلَ إنك منسوب ومَسؤول

أي مؤاخذ بما اقترفت من هجو النبي والمسلمين. وهو في الآية كناية بمرتبة أخرى عن مؤاخذة صاحب السمع والبصر والفؤاد بكذبه على حواسه. وليس هو بمجاز عقلي لمنافاة اعتباره هنا تأكيدَ الإسناد ب (إن) وب (كل) وملاحظة اسم الإشارة و (كان). وهذ المعنى كقوله: { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [النّور: 24] أي يسأل السمع: هل سمعت؟ فيقول: لم أسمع، فيؤاخذ صاحبه بأن أسند إليه ما لم يبلِّغه إياه وهكذا.

والاسم الإشارة بقوله: { أولئك } يعود إلى السمع والبصر والفؤاد وهو من استعمال اسم الإشارة الغالب استعماله للعامل في غير العاقل تنزيلاً لتلك الحواس منزلة العقلاء لأنها جديرة بذلك إذ هي طريق العقل والعقل نفسه. على أن استعمال (أولئك) لغير العقلاء استعمال مشهور قيل هو استعمال حقيقي أو لأن هذا المجاز غلب حتى ساوى الحقيقة، قال تعالى: { ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } [الإسراء: 102] وقال:

ذم المنازل بعد منزلة اللوىوالعيش بعد أولئك الأيام

وفيه تجريد لإسناد { مسؤولا } إلى تلك الأشياء بأن المقصود سؤال أصحابها، وهو من نكت بلاغة القرآن.