فصله عما قبله لاختلاف الغرضين، لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين. ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد.
وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } فقالوا:
{ { نؤمن بما أنزل علينا } [البقرة: 91] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبي والمسلمين من خير، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله: { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } [البقرة: 91] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ. و(الود) بضم الواو المحبة ومن أحب شيئاً تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب.
وذكر (الذين كفروا) هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معاً تمهيداً لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله:
{ { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [البقرة: 111] الآيات. ونبه بقوله: { الذين كفروا من أهل الكتاب } دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبي المقفي على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود. ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله: { الذين كفروا من أهل الكتاب } قد يوهم كون البيان قيداً وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله: { ولا المشركين } كالاحتراس وليكون جمعاً للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي:
{ { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } [البقرة: 114] وقرأ الجمهور (أن ينزل) بتشديد الزاي مفتوحة. والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجماً لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجاً. وقرأه ابن كثير وابن عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضاً وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجماً. والخير النعمة والفضل، قال النابغة:
فلست على خير أتاك بحاسد
وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله: { والله يختص برحمته }. وقوله: { والله يختص برحمته من يشاء } عطف على { ما يود } لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه.
والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصاً غير عام سواء خص واحداً أو أكثر. ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة.
والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من تعلقات العلم الإلاهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى:
{ إنك أنت العليم الحكيم } [البقرة: 32] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها مَن خلقه قابلاً لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئاً فشيئاً قال تعالى: { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً } [يوسف: 22] وقال: { { الله يعلم حيث يجعل رسالاته } [الأنعام: 124] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالماً بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقاً بأفهام المخاطبين. وقوله: { والله ذو الفضل العظيم } تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح
"تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" .