التفاسير

< >
عرض

يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٣
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
١٥٤
-البقرة

التحرير والتنوير

هذه جمل معترضة بين قوله تعالى: { { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [البقرة: 150] وما اتصل به من تعليله بقوله: { { لئلا يكون للناس عليكم حجة } [البقرة: 150] وما عطف عليه من قوله { { ولأتم نعمتي عليكم } [البقرة: 150] إلى قوله: { { واشكروا لي ولا تكفرون } [البقرة: 152] وبين قوله: { { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } [البقرة: 177] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شأن تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله: { لئلا يكون للناس عليكم حجةً } المتصل بقوله: { { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [البقرة: 150].

وهو اعتراض مُطْنِبٌ ابتُدىء به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكراً له على خَولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطاً وشهداء على الناس، وتفضيلِهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك، وأمْرِهم بالاستخفافِ بالظالمين وأَنْ لا يخشوهم، وتبْشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولاً منهم، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال، من أجل ذلك كله أَمرهم هنا بالصبر والصلاة، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال، فناسب تعقيبها بها، وأيضاً فإن ما ذكر من قوله: { لئلا يكون للناس عليكم حجةً } مشعر بأن أناساً متصدُّون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم، فأُمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة. وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية: { إن الصفا والمروة من شعائر الله } إلى قوله: { { شاكر عليم } [البقرة: 158] فسيأتي تبييننا لموقعها.

وافتُتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعاراً بخبرٍ مهم عظيم، فإن شأن الأَخبار العظيمة التي تَهُول المخاطبَ أن يقدَّم قبلَها ما يهيءُ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفْجَأَها.

وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيُعقب بالنَّدْب إلى عمل عظيم وبلْوى شديدة، وذلك تهيئةٌ للجهاد، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى، فإن ابتداء المغازي كان قُبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بُوَاطَ والعُشَيْرَةِ وبدْرٍ الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال، وكانت بَدْرٌ الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين.

وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: { { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة: 143] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناساً قُتلوا قبل تحويل القبلة، أنه توهم من أحد الرواة عن البراء، فإن أَوَّلَ قَتْل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال "لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس" الحديث فلم يقل: (الذين قتلوا). فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب، وتحبيبٌ للشهادة إليهم. ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله: { لمن يقتل في سبيل الله المشعر بأنه أمرٌ مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بُعَيد نزول هذه الآية.

وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى: { { واستعينوا بالصبر والصلوات وإنها لكبيرة } [البقرة: 45] الآية إلاَّ أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: { إنها لكبيرة } علماً منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك { إلاَّ على الخاشعين } ولم يذكر مثل هذا هنا، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يُسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك، وزاد هنا فقال: { إن الله مع الصابرين } فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين.

وقوله { إن الله مع الصابرين } تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين.

وقوله: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكراً عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية، فقوله: { ولا تقولوا } نهي عن القول الناشىء عن اعتقاد، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلاّ ما يَعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا، والظاهر أن هذا تكميل لقوله: { { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة: 143] كما تقدَّم من حديث البراء فإنه قال: "قتل أناس قبل تحويل القبلة" فأعقب قوله: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة.

وارتفع { أمواتٌ } على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات.

و{ بل } للإضراب الإبطالي إبطالاً لمضمون المنهي عن قوله، والتقدير بل هم أحياء، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ، فقوله: «أحْيَآء» هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد { بل } الإضرابية.

وإنما قال: { ولكن لا تشعرون } للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث "إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها" .

والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها.