التفاسير

< >
عرض

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٥
ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

التحرير والتنوير

عطف: { ولنبلونكم } على قوله: { { استعينوا بالصبر والصلوة } [البقرة: 153] عَطْفَ المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل، ولك أن تجعل قوله: { ونبلونكم } عطفاً على قوله: { { ولأُتم نعمتي عليكم } [البقرة: 150] الآيات ليُعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقيناً بأن اتِّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حُظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده { وبشر الصابرين } وجعل قوله: { { يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلٰوة } [البقرة: 153] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبراً بقوله: { وبشر الصابرين }.

وجيءَ بكلمة (شيءٍ) تهويناً للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: { { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } [النحل: 112] ولذلك جاء هنا بكلمة (شيءٍ) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أن استعار لها اللباس الملازم لللاَّبس، لأن كلمة (شيء) من أسماء الأجناس العالية العامَّة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة (شيء) قبل اسم ذلك الجنس إلاّ لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غَناءَها، فما ذكر كلمة شيء إلاّ والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السّريّ مخاطباً لأبي إسحاق الصابي:

فشيئاً من دَمِ العُنْقُودِ أَجعله مكان دَمي

فقول الله تعالى: { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع } عُدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسمِ جنسٍ كما إذا أُتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذٍ يدل على مطلق التنويع نحو قول قُحَيط العِجْلي:

فلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللعْنَ فيهاومَنْعُكها بشيء يستطاع

فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمَعْنًى من المعاني من غلبة أو معازَّةٍ أو فداء أو نحو ذلك اهــــ.

وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفاً لدلالة المقام، كقوله تعالى: { { فمن عفى له من أخيه شيء } [البقرة: 178] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر، وقول عمر بن أبي ربيعة:

ومِنْ مالىءٍ عينيه من شيءٍ غيرهِإذَا راح نحو الجمرَةِ البيضُ كالدمى

أي من محاسن امرأة غير امرأته.

وقول أبي حَيَّة النُّمَيْري:

إذا ما تقاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌتَقاضَاه شيءٌ لا يَمَلُّ التقاضيا

أي شيء من الزمان، ومن ذلك قوله تعالى: { { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } [آل عمران: 10] أي من الغَنَاء.

وكَأَنَّ مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعَا الشيخَ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيتِ أبي حية النميري، وبِقلَّتها وتضاؤُلها في قول أبي الطيب:

لو الفَلكُ الدوَّار أبْغَضْتَ سَعْيَهُلعَوَّقَهُ شيءٌ عن الدَّوَرَانِ

لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوِّقَ الفلك لا بد أن يكون شيئاً.

والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة، كما وقع في يوم الأحزاب إذ جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة:

شعب العلافيات بين فروجهموالمحصنات عوازب الأطهار

وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة بكثرة غزواته:

أفى كل عام أنت جاشم غزوةتَشُد لأقصاها عزيم عزائكا
مورِّثةٍ مالاً وفي المَجْدِ رِفْعَةًلما ضاع فيها من قُروء نسائك

وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور.

والكلام على الأموال يأتي عند قوله تعالى: { { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة: 188] في هذه السورة وعند قوله: { { إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم } [آل عمران: 10] في سورة آل عمران.

وجملة: { وبشر الصابرين } معطوفة على { ولنبلونكم }، والخطاب للرسول - عليه السلام - بمناسبة أنه ممن شمله قوله: { ولنبلونكم } وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه.

وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريماً لشأنه، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، فلذلك كان من لطائف القرآن إسنادُ البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول، وإسنادُ البِشارة بالخير الآتي من قِبَل الله إلى الرسول.

والكلام على الصبر وفضائله تقدم في قوله تعالى: { { واستعينوا بالصبر والصلٰوة } [البقرة: 45].

ووصفُ الصابرين بأنهم: { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا } الخ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عند المصيبة أنهم مِلْك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك، فالمراد من القول هنا القولُ المطابق للاعتقاد إذ الكلام إنما وُضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبراً إذا كان تعبيراً عما في الضمير فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل وإنما هو كالذي ينعق بما لا يَسْمَع، وقد علَّمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة، لأن الاعتقاد يقوى بالتصريح لأن استحضار النفس للمدرَكات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحِسّ، ولأن في تصريحهم بذلك إعلاناً لهذا الاعتقاد وتعليماً له للناس. والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: { { فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي } [النساء: 72] في سورة النساء.

والتوكيد بإنّ في قولهم: { إنا لله } لأن المقام مقام اهتمام، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه مِلْكاً لله تعالى وعبداً له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هولها بينه وبين رشده، واللام فيه للملك.

والإتيان باسم الإشارة في قوله: { أولئك عليهم صلوات من ربهم } للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل: { { أولئك على هدى من ربهم } [البقرة: 5] وهذا بيان لجزاء صبرهم.

والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازاً في مثل قوله تعالى: { { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [الأحزاب: 56].

وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبىء عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: { { ويقيمون الصلٰوة } [البقرة: 3] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يُطلب الخير إلاّ منه متعيناً للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالةً على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية.

وقوله: { وأولئك هم المهتدون } بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لِمَا هو حقُّ كل عبْد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجباً عن التحقق في مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سبباً في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيَّ للَّه لما لَحِقَنا عذاب ومصيبة، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذَّرنا الله أمْرَهم بقوله: { { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [الأعراف: 131] وقال في المنافقين: { { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } [النساء: 78]، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية، تعرض لعروض سببها، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة، وقد تكون لرفع درجات النفس، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلاّ الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها، ولله تعالى في الحالين لُطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.