التفاسير

< >
عرض

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
-البقرة

التحرير والتنوير

عطفت الفاء جملة { فذبحوها } على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري، ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقاً كما تقدم.

وقوله: { وما كادوا يفعلون } تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة، تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية، ولذلك قال ابن عباس: لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وروى ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" وفي سنده عبادة بن منصور وهوضعيف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال: «فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل: فضالّة الغنم قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها».

وجملة: { وما كادوا يفعلون }تحتمل الحال والاستئناف، والأول أظهر لأنه أشد ربطاً للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتاً متحداً اتحاداً عرفياً بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات، وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل.

ثم إن { ما كادوا يفعلون } يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله: { فذبحوها }؟ فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك، وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافاً وقد علمتم بعده.

فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفياً لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفياً للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى: { وما كادوا يفعلون } في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك، ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين، وإلى هذا ذهب ابن مالك في «الكافية» إذ قال:

وبثُبوت كاد يُنفَى الخبرُوحينَ ينفى كادَ ذاك أَجدر
وغير ذَا على كَلاَمَيْن يَرِدْكَوَلَدَتْ هند ولم تَكَد تَلِد

وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع.

وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتاً على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله:

أَنْحويَّ هذا العَصر ما هي لفظةأتت في لسانَيْ جُرهم وثَمود
إذا استُعْمِلَتْ في صورة الجَحْدِ أَثْبَتَتْوإن أُثْبِتَتْ قامت مقامَ جُحُود

وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى: { فذبحوها وما كادوا يفعلون } وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.

وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة ينشد قصيدته الحائية التي أولها:

أَمَنْزِلَتَيْ مَيَ سلام عليكمعلى النَّأْي والنَّائِي يَوَدُّ وينصَح

حتى بلغ قوله فيها:

إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحبين لم يَكَدُرَسِيسُ الهَوَى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال: فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال: «لم أجد» عوض «لم يكد» قال عنبسة: فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غَيَّر شعره لقول ابن شبرمة: إنما هذا كقول الله تعالى: { { ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يَكَدْ يراها } [النور: 40] وإنما هو لم يرها ولم يكد.

وذهب قوم ـــ منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في «التسهيل» ـــ إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيداً في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله { فذبحوها } قرينة على هذا القصد. قال في «التسهيل»: «وتنفي كاد إعلاماً بوقوع الفعل عسيراً أو بعدمه وعدم مقاربته» واعتذر في { شرحه للتسهيل } عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال.

وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين { { لم يكد يراها } [النور: 40] { وما كادوا يفعلون } وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع.

وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولولا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدماً ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله: جرت في لساني جرهم وثمود ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق، فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره، وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في شرح التسهيل } ضعيف. وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية { لم يكد يراها } فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شراً «فأُبت إلى فهم وما كدت آيباً» وقال تعالى: { ولا يكاد يبين } [الزخرف: 52]. وإنما قال: { وما كادوا يفعلون } ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفنناً في البيان.